الباحث منصور النقيدان كتب شهادته “وهابيون متصوفون” منطلقاً من تجربته الروحية التي عاصرها مع “إخوان بريدة” والتي تتماس في بعض جوانبها مع الطقوس الصوفية، وتتداخل في بعض مفاصل فكرها مع مفاهيم صوفية بحتة، يبدأ الشهادة بتنبيهه إلى أن هذه الشهادة تعرض جوانب من الزهد والورع والنسك والخمول الذي كان يمتاز به بعض من عرفتهم أو رويت عنهم من (إخوان بريدة) وهم عشرات من أتباع مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، كانوا حُمْسَ الوهابيين والأمناء على تعاليم الإمام وسدنة مدرسته.وهذه القصص التي أرويها-يقول الباحث-هي وثيقة تاريخية تشي بنزعة صوفية حنبلية عند الجماعة، وتظهر فاقعة عند أحد أعلامهم وأكثرهم شهرة وغرابة وجاذبية الشيخ فهد بن عبيد العبدالمحسن، مع آخرين من علماء الإخوان وطلبة العلم فيهم وعامتهم.
و وصف الإخوان بحسب الدراسة -وهو وصف لاعلاقة له بجماعة “الإخوان المسلمين”- بل هو نابع من كونهم إخوة في الله اجتمعوا على محبته واتباع سنة رسوله، وهو وصف محبب لكل من تطوع في نجد منذ فترة مبكرة لانتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقد كان المتطوعون المقاتلون من أبناء البادية في جيش الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية يسمون بـ”الإخوان”، ولهذا يقال عنهم”إخوان من طاع الله”.ومن مطوِّعة نجد إخوان بريدة، ومع ذلك فقد كان لكل من إخوان بريدة ، والإخوان البدو، أفكار يتميزون بها عن بعضهم البعض. وكل هذه الفئات لاعلاقة لها بالإخوان المسلمين.وإخوان بريدة هم حنابلة وهابيون، تعرضت جماعتهم الصغيرة للتحولات والتطورات بشكل كبير منذ تسعينيات القرن الماضي. واليوم 2011، تكاد تلك الجماعة بأفكارها وانعزالها وولائها العميق للحكم السياسي تتعرض للانقراض، بعدما تحول كثير منهم إلى الجهادية السلفية.
في شهادته يرسم مواقف كثيرة مع مشايخ كانت لهم وجدانياتهم وزهدهم وعبادتهم ومناجاتهم، مثل عبدالله الدويش، وفهد العبيد، تبين الملامح الفكرية التي يتضمنها الموقف أو المشهد.
أما عن الموقف من محمد علوي مالكي الزعيم الروحي لمتصوفة الحجاز، وبين السلفيين، فرأى النقيدان أن تلك الحادثة –على وجه الدقة-تشي بما استبطنه ذلك الاحتجاج الديني من دوافع اجتماعية ومناطقية نبعت من الشعور بالتفوق والاستعلاء النجدي الاجتماعي والسياسي والديني على حاضرة الحجاز وأشكال الثقافة والتنوع المذهبي والعرقي الذي زخر بها منذ مئات السنين. وهو استعلاء نشأ مع الدولة السعودية الأولى، وتمدّد دعوة ابن عبدالوهاب حتى ابتلعت الحجاز والحرمين، وهو استعلاء ظهر فاقعاً في فتح الحجاز 1344ه/ 1925 ، واستمر حتى اليوم بمظاهر وتجليات متعددة.
وعن علاقة الحنابلة بالتصوف أشار إلى أن حنابلة عظاماً فقهاء وعارفين وسالكين كانوا متصوفة، وكتبوا في التصوف مثل ابن الجوزي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن رجب الحنبلي. وقبلهم الهروي صاحب منازل السائرين، وكانت أحوالهم وسيرهم تؤكد ميولهم نحو التصوف.
ولكن الموقف من أعلام المتصوفة-يشير النقيدان- عند إخوان بريدة كان ملتبساً على الدوام، إذ كان الرفض واضحاً تجاه الطرق والزوايا وتحضير الأرواح وادعاء مخاطبة الرسول وسقوط الفرائض وتخفيف الشرائع ببلوغ السالك مراتب متقدمة من الإحسان والقرب من الله. ومع ذلك فقد كانت سير المتصوفة وتفاصيل حيواتهم وبعض ماينقل عنهم من قصص وكرامات وفتوحات وحكم وقصص غريبة لها تأثير واضح ووقع حسن، ويتجلى ذلك أوضح مايكون في كتابات ابن قيم الجوزية في كتابيه (مدارج السالكين) و(طريق الهجرتين)، وفي رسائل وفتاوى ابن تيمية. ومع مايمتاز به حنابلة السعودية من نفور عقدي مذهبي من وصف أحد بالمتصوف أو الثناء على الصوفية، إلا أن كثيراً من الأحوال والممارسات في سياق الزهد أو الورع أو النسك والعبادة والإخبات والخوف من الله ومحاسبة الذات كانت تتجلى في تصرفاتهم وتقلباتهم وتطبيقهم للتدين الذي ارتضوه.
كان الإخوان في بريدة شأن غيرهم من الحنابلة السلف يحرصون على قراءة واقتناء كتب التاريخ والتراجم التي تناولت حيوات المتصوفة من أعلام القرون الأربعة الأولى، مثل حلية الأولياء لأبي نعيم وصفة الصفوة لابن الجوزي، وغيرها من الكتب التي تناولت سير المتقدمين من أهل الحديث والأثر وما فيها من قصص الزهد والسلوك والتصوف السلوكي والأخلاقي مثل الورع والبعد عن الحرام والمشتبهات والحرص على طيب المأكل والمشرب والملبس، والعزلة عن الخلق، والأنس بالخلوة مع الله والتقلل من الدنيا والقناعة منها بالقليل.
الدراسة تطرقت إلى نفور حنابلة وسط الجزيرة العربية من أي ميول صوفية تتمثل في التجافي الشديد من أي ممارسات أوعادات تبدو دخيلة وذات منبع صوفي، نجد شاهده في الجفول من جماعة التبليغ والدعوة، وهي جماعة تميل نحو التصوف والتخفف من أثقال الدنيا، ومع أن كثيراً من مواعظهم ممزوجة بالجبرية ونفي السببية وجعل مرد كثير من الأحداث والتغيرات في الآفاق وفي الأنفس والاجتماع إلى قانون “الاقتران”، إلا أن التبليغيين النجديين يبقون لفترات طويلة محصنين ضد تواكل العجم ودروشتهم بحيث تبقى تلك الأفكار والمثل مفصولة عن واقع الحياة الذي يعيشونه ويكابدون فيه طلب الرزق وكسب العيش.
يشير البحث إلى أن من بين إخوان بريدة أفراد مستقلين ولكنهم بقوا موطناً للمشورة والتماس الحكمة عند الشدائد،وظهور الشقاق، مثل محمد العبدالعزيز السليم. آخرون مثل عبدالكريم الحميد يزيد معجبوهم وينقصون حسب المواسم، لم يكن لعبدالكريم عام 1406 ه/1985 إلا اثنان من المحبين في أجواء من النبذ والهجران، فمنذ أن بدأ الخلاف بينه وبين شيخه فهد العبيد عام 1401 هـ/1980 حول كروية الأرض ونزول المطر من السحاب، مروراً بمذكرته العلوم العصرية والآلات السحرية عام 1404 هـ/1983 وأصحابه في تناقص، ومنذ العام 1411هـ/1991 بدا أن سحر شخصيته وطريقة عيشه تخلب ألباب الشباب، حتى بلغت ذروتها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وفي خاتمة الشهادة يقول النقيدان: هذه الوقائع والقصص التي رويتها تكشف عن تصوف إخوان بريدة، إنه تصوف في السلوك والتطبيق العملي للحياة في المأكل والمشرب والعبادة ومداومة الذكر والصلاة والتقلل من الدنيا والرضى بالقليل. وهو يشابه إلى حد كبير تصوف أهل الحديث والأثر، ولكن مع وفاء كبير لتعاليم الإمام ابن عبدالوهاب، مع بعض الشطحات التي احتُملت وجرى التغاضي عنها في توجهات فهد العبيد ومريديه، وليس غريباً أن يكون لهم –رغم قلة نفوذهم العلمي والفقهي وغلبة العوام فيهم- حظوة وسطوة وهيبة عند علماء الوهابية الكبار وهو مالمسته في أكثر من زيارة ولقاء جمعنا مع الشيخ عبدالعزيز بن باز وغيره من العلماء. تضافر ذلك مع تقدير كبير للإخوان من قبل الملك والأمراء الكبار في كل مكان يفدون إليه في أصقاع البلاد. ولكن هذا الاحترام الكبير والتقدير تعرض لانكسار عام 1407هـ-1408هـ/ 1988، بعدما أغلقت مدرستهم الدينية، ثم تضعضعت منزلتهم إثر التغير الكبير الفكري والديني بعد تسرب الفكر الجهادي والتكفيري إلى أجيالهم الشابة، وتلوث بعض كبار السن فيهم بتلك الأفكار. كما أن رحيل الكبار منهم والمؤثرين فيهم كان عاملاً مساعداً في ذلك التحول ، وذلك يعود لأسباب أرجو أن يكون شرحها في دراسة أكثر توسعاً من هذه الشهادة التي هي إضاءة ورواية عن قوم كانوا فبانوا.
لقراءة الدراسة كاملة