- العلاقة بين الجريمة والإرهاب
كانت أول المتحدثين الباحثةُ أماندا بول، محلل أول في مركز السياسات الأوروبية والمحرر المشارك لكتابٍ حديث بعنوان «البنادق والمجد: الجريمة والسجن والتطرف الجهادي في أوروبا». الكتاب عبارة عن دراسة حالة لعشرة أشخاص من دول البلقان. وتحدثت أماندا عن بعض الدروس المستفادة من هذا الكتاب ومن بحوثها الأخرى.
بداية، تناولت بول القضية المعقدة التي عادةً ما يتم استحضارها في هذا الإطار وهي “العلاقة بين الجريمة والإرهاب”. وفي هذا الصدد، ذكرت أنه رغم أن عددًا من الجهاديين الهولنديين الذين ذهبوا إلى سوريا للانضمام إلى داعش أو القاعدة لديهم سجلات إجرامية، ولكن لا يوجد دليل على وجود علاقة منهجية بين الجريمة المنظمة والجهاديين من النوع الذي كان قائمًا بين العصابات الإجرامية في أوروبا وحزب العمال الكردستاني، على سبيل المثال. وأن كل ما هنالك هو تعاون براجماتي حيث تتداخل احتياجاتهم -في شراء الأسلحة وتزوير الوثائق، إلخ- ليس أكثر من ذلك.
بالتحول إلى جوهر البيانات، ومع ملاحظة أنه من الصعب التوصل إلى نتيجة حاسمة من مثل هذه العينة الصغيرة، أشارت أماندا إلى أن المقاتلين الجهاديين الأجانب يتقاسمون عددًا من الملامح: كانوا عمومًا شبانًا، مهمشين اجتماعيًا، وينحدرون من مناطق تتسم بارتفاع معدل البطالة وانخفاض الدخل، والكثير منهم يعانون مشكلات في الصحة العقلية أو لديهم تاريخ من تعاطي المخدرات، ولدى أعداد كبيرة منهم أقارب مجرمين أو متطرفين أو قضوا هم أنفسهم فترة في السجن، وجميعهم تقريبًا ينتمون إلى أُسرٍ تعاني مشكلاتٍ.
جاء هؤلاء من “مجتمعات موازية” في المدن الأوروبية، ونظرًا لأنهم لم يندمجوا في المجتمع فقد استغل الدعاة السلفيون هذا التفكك وضعف السلطات، التي أصيبت بالشلل الشديد بسبب الخوف من اتهامها “بالعنصرية”، ولم تتخذ أي إجراءات لمواجهة الاتجاهات السلبية التي تتشكل أمام أعينها.
وجد تنظيم داعش، وغيره، من الجماعات المتشابهة التفكير، في هذا فرصةً لتجنيد مزيدٍ من الأعضاء. يتمتع المجرمون بمهارات مفيدة في إدارة تنظيم إرهابي، مثل الابتزاز والتآمر والقتل، من بين أشياء أخرى. كما استغل داعش سبلًا “أكثر ليونة” لإيجاد “وسيلة للاختراق”، مثل الجدل الدائر حول حجاب المسلمات الذي جعل الكثيرين يشعرون بأنهم غير مرحب بهم في الدول التي اعتقدوا أنها أصبحت أوطانهم.
وربما الأهم من ذلك، هو أن داعش قدَّم لهؤلاء الخلاص. إذ وعد المجرمين التافهين والأشخاص الذين ضلوا طريق في الحياة بأن لديهم سبيلًا للخلاص، وأن ثمة طريقة لتخليصهم من خطايا الماضي: الجهاد. بل إن داعش أعلن عن هذا في حملة التجنيد التي أطلقها، حيث أشار في إحدى رسائله الدعائية، إن “بعض الأشخاص من ذوي الماضي الأسوأ يخلقون أفضل مستقبل”.
خطر الجهاديين لا يتوقف عقب تجنيدهم. فهؤلاء الذين يتم القبض عليهم يشكلون مشكلة أخرى في السجون، ففي بلجيكا وبريطانيا والدول الغربية الأخرى، أصبح التطرف في السجون يشكل تهديدًا خطيرًا، وإن لم يكن مفهومًا جيدًا. وهناك القليل من الموارد المخصصة لتقييم حجم مشكلة التطرف في السجون الغربية. فالسجون صغيرة للغاية، ومكتظة للغاية، والموظفون غير مدربين. ورغم أن هولندا أحرزت بعض التقدم في هذا الصدد، من خلال فصل الإرهابيين عن باقي السجناء، فإن الوقاية هي أفضل السبل لمواجهة للتطرف.
- الثورة الإيرانية وتأثيراتها على نمو التطرف
المتحدث التالي كان كامل الخطي، مستشار موقع عين أوروبية على التطرف، والباحث المشارك في “مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية”، الذي يهتم بدراسة الحركات اليسارية والقومية في شبه الجزيرة العربية، وكذلك الحركات الشيعية في منطقته الشرقية، بالمملكة العربية السعودية. ذكر الخطي أنه بالعودة إلى الوراء، نجد أن المملكة العربية السعودية قد شهدت حدثين في عام 1979، أحدهما خارجي والآخر داخلي، تسببا في تعكير صفو الأمن، ودفعا المملكة إلى مسارٍ أكثر رجعية في سعيها لاحتواء الفوضى المنتشرة.
وكان الانتصارُ الأخير لثورة الإسلاميين، التي دامت عامًا في إيران، قد أدى إلى الإطاحة بالنظام الملكي العلماني في يناير من ذلك العام، بعدما سيطر المتطرفون على السلطة في عملية دموية، في ظل وجود الشاه في المنفى. وعقب ذلك، استولت طائفة تؤمن بنهاية العالم بقيادة جهيمان العتيبي على المسجد الحرام في مكة في نوفمبر 1979. وغالبًا ما يتم الخلط بين هذا الحدث الأخير والحدث السابق، وذلك نظرًا لأنه حدث بعد أسبوعين من استيلاء عناصر الجمهورية الإسلامية الجدد على السفارة الأمريكية في طهران، ما أحدث مزيدًا من التشوش في الذاكرة الجماعية. لكن خطط جهيمان كانت منفصلة تمامًا عن الخطط الإيرانية.
وفي مسعى للتصدي لهذه التيارات الجديدة والطائفية العنيفة للثورة الإسلامية القادمة من الخارج والتوجهات الدينية المشوهة الناشئة في الداخل، صعّدتِ الدولةُ السعودية من قوة وتأثير رجال الدين، على أمل تثقيف السكان بصحيح الدين، وقد نجح هذا بشكل عام، وإن انطوى على بعض التنازلات فيما يتعلق بالتحديث الناشئ، في ظل إعادة التأكيد على المعتقدات التقليدية.
قبل هذه المرحلة، لم تكن هناك جماعات شيعية طائفية سرية. فلقد قاوم معظم السعوديين الشيعة محاولات الاختراق الإيرانية، لكن البعض الآخر لم يقاوم حيث تم إنشاء نسخة سعودية من الحرس الثوري الإيراني، التي تمثلت في “حزب الله الحجاز”، الجماعة المسؤولة عن تفجيرات أبراج الخبر في عام 1996.
كان المُنظرون، من أمثال علي شريعتي، قد دمجوا تيارًا ماركسيًا في الثورة الإيرانية، وقد أثر ذلك في المملكة العربية السعودية، حيث قام النظام الديني في إيران، المولود من رحم هذا الانصهار الماركسي الإسلامي، بتصدير ثورته. وتعاطفتِ الكثيرُ من الحركات اليسارية في الخليج مع الإسلاميين باعتبارهم عوامل للتغيير، تمامًا كما كانوا في إيران، حتى نجح النظام الجديد في تفكيكهم، واحدًا تلو الآخر.
عقب ذلك، تعرضت الدولة السعودية لصدمة منهجية في عام 2003، عندما اندلع تمرد جهادي سني بقيادة تنظيم القاعدة. ردًا على ذلك، بدأت الدولة في استخدام النهج الأمني، رغم أنها سرعان ما عدلت نهجها وأشركت جميع عناصر قوتها لإخماد التمرد. وتم تطبيق الدروس المستفادة، خاصة فيما يتعلق بالمدن المهمشة التي غذَّت التمرد، عبر الطوائف.
- وسط أفريقيا ومكافحة التطرف
المتحدث الأخير هو يون كاتسهوك، مؤسس ومدير منظمة “إيلفا للمشاركة المجتمعية” (Elva Community Engagement)، المتخصصة في الوصول إلى البيانات والحصول عليها من السكان الذين يصعب الوصول إليهم المحاصرين في الصراعات. ركز كاتسهوك على منطقة بحيرة تشاد في نيجيريا، التي تشهد الآن صعودًا لأنشطة “ولاية غرب إفريقيا” التابعة لداعش، بعد أن تمكنت من إضعاف جماعة “بوكو حرام” سيئة الذكر. وتخطط منظمة المشاركة المجتمعية لعقد 50,000 مقابلة خلال هذا العام في البقاع الساخنة من هذا الصراع.
وفي هذا الإطار، أشار كاتسهوك إلى أن المسارين المزدوجين للسياسة -الأمن والتنمية- لا يزالان منفصلين في عددٍ مثير للقلق من الحالات، حيث تعد نيجيريا واحدة من هذه الحالات، وهذا يقوض أي أمل في إحراز تقدم طويل الأجل. بعبارة أخرى، لا فائدة من بناء مدارس لا يمكن حمايتها، ولا فائدة من تطهير جماعة إرهابية من منطقة دون خطة لتأمينها بعد ذلك.
يعتمد الجزء الأخير -مرحلة “الصمود”- على العلاقة بين القائمين على توفير الأمن والمجتمعات المحلية التي يسيطرون عليها، وفي أفريقيا نادرًا ما تكون هذه العلاقة صحيّة. واعتبر إنه أمر سيئ جدًا لدرجة أنه في الحالات التي يتصورون أنها “جيدة”، يرى السكان أن قوات الأمن تتعامل بوحشية وافتراسٍ، أقل قليلًا فقط من وحشية وافتراس تلك التي عانوا منها مؤخرًا (في إشارة إلى معاناتهم على يد الجماعات الإرهابية). ولا شك أن هذا الرضا النسبي لا يشكل أساسًا متينًا لسلامٍ دائم.
ونتيجة لذلك، تترسخ دوامة معتادة من عدم الثقة في ظل أن الجنود -الذين عادة ما يكونون غرباء عن المناطق التي يسيطرون عليها، وإن كانوا من نفس الدولة- سرعان ما يشكون، وليس دائمًا من دون سبب وجيه، في أن لدى السكان معلومات أكثر مما يرغبون في مشاركتها عن العمليات الإرهابية التي تحدث في مناطقهم. ومن ثم، تبدأ الأجهزة الأمنية في معاملة جميع السكان على أنهم مشبوهون، إن لم يكن معادين، ما يؤدي إلى تفاقم الوضع ويتحول في النهاية إلى مواجهة. وهذا أمر خطير بكل تأكيد لأن إلقاء القبض على فرد من العائلة أو الأصدقاء هو أحد أهم أسباب الانضمام إلى المتطرفين.
المؤسسات العسكرية، موضوع الحديث، عادة ما تكون فاسدة، وهو أمر غير مستغرب في ضوء تدني رواتب أفرادها. وفي ضوء الخطر الحقيقي الذي يواجهها من الإرهاب، لا عجب أن تتعامل مع السكان بمثل هذا النوع من اللا مبالاة، وتقدم أمنها على أمن السكان، الذين لا يعتبرونها تمثلهم. ولا يوجد مؤشر أهم في مكافحة التمرد من حالة العلاقة بين الأجهزة الأمنية والسكان. وعليه، ينبغي اتخاذ خطوات أساسية مثل تدريب أفراد المؤسسات العسكرية على قوانين حقوق الإنسان.
تنظيم مشترك بين “عين أوروبية على التطرف”، و”لينكس أوروبا”، و”مركز لاهاي للإنسانيات”