السيدة المديرة العامةالسيدات والسادة،
اسمحوا لي أن أبدأ بتأكيد تضامني وزملائي مع شعبي فرنسا والدنمارك، ومع الصحفيين والمجتمعات اليهودية التي عانت من هجمات الإرهابيين المتطرفين في باريس وكوبنهاغن وبروكسل. إنه لمؤلم لي جدا أن تنفذ هذه الجرائم باسم الإسلام: دين اسمه مقتبس من السلام. إن هذه الإيديولوجية تلاحق وتعذب وتقتل ما لا يحصى من الأبرياء المسلمين في العراق وسوريا وليبيا ونيجيريا وغيرها إضافة إلى أعداد من المسيحيين واليزيديين.
والسؤال الذي نواجهه الآن هو: كيف يمكن كمجتمع مدني يمكن أن نوحد قدراتنا ونتغلب على هذا العدو الذي يجذب إلى جبهاته آلافا من أبنائنا جميعا عربا وأوروبيين. ونعيش صراعاً يومياً أصبح الإنترنت أكبر جبهاته مع الأفكار المتطرفة التي لاتخضع للرقابة ولا الإدانة والمحاسبة. هذا الفكر الذي أطلق له العنان في الفضاء السايبري أسهم كثيراً في تجنيد المنظمات الإرهابية لكثير من الشباب من كافة الدول – بما فيها دول ديمقراطية.
منذ تأسس مركز المسبار قبل تسع سنوات أصدرنا قرابة مئة كتاب شهري باللغة العربية ترصد سلوك وأفكار جماعات ومنظمات الإسلام السياسي كما تبرز قضايا الأقليات في المنطقة العربية وأوضاع المرأة وحقوقها كما قمنا بمجموعة من الورش التدريبية ومؤتمرات مع صنّاع سياسات وإعلاميين حول كثير من تلك القضايا، إضافة إلى استشارات لصنّاع سياسات، والتجربة التي اكتسبناها خلال عملنا هي أن منطقتنا العربية تعاني من هشاشة الأرضية التي يمكن أن تسمح للفكر المستنير أن ينمو ويترعرع ويكون قادراً على كسب العقول والقلوب ضد التطرف. ويتمثل جزء من المشكلة في غياب التسامح والحوار واحترام الآخر، الأمر الذي يجعلنا جميعا هناك وخاصة أبناء الديانات والطوائف والأقليات ضحية عند كل اضطراب.
إن الأسباب التي تسهم في خلق حواضن للإرهاب كثيرة، وأخذها بعين الاعتبار يساعدنا على جعل مهمتنا في المعالجة والمشاركة في مساعدة مجتمعاتنا وشبابنا أكثر نجاحاً. ومع أهمية العوامل السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في توليد الإرهاب إلا أنها يجب ألا تجعلنا نغفل حقيقة راسخة تشخص أمامنا أين توجهنا، وهو أن الفكر الديني المؤدلج هو القاسم المشترك الذي يوحدها وهو أمر تستند عليه جميعا.
هنا نحن لانتكلم عن ديانة ولا عن أبناء طوائف يمكن استهدافهم، هنا نحن نضع اليد على الخزان الإيديلوجي والشرعي والديني والعقيدة التي تغذي هذه الجماعات، عن عش الأفاعي. وهذه هي المعركة الكبرى التي يجب على المستنيرين المسلمين من مفكرين ومثقفين وفقهاء أن يخوضوها، مع أنفسهم أولاً، لكي يجدوا الدعم من شركائهم من أبناء الديانات والثقافات.
إن بصيصاً من الأمل يكمن في مناقشة هذه الأفكار في الهواء الطلق، عبر الحوار، والإفصاح عن مصادر القلق، ومنابع الخوف، وهواجس التهميش، وكيف يمكن لنا أن نساعد شبابنا وفتياتنا في صناعة مستقبل أقل عنفاً وأكثر سلاماً.
إن قدرتنا على تحدي هذا الواقع المؤلم يتمثل عبر التفوق على أنفسنا وامتلاك الشجاعة لمناقشة الأفكار والأيديولوجية التي تستند عليها هذه المنظمات الإرهابية، وتشجيع ثقافة التسامح، عبر دعم البرامج والمشاريع التي تحيي الأمل لدى الشباب وتشجعهم على الحوار، وتغرس فيهم ثقافة السلام. هنا يكمن واجبنا كمركز معني بهذه القضايا.
منذ يناير 2007 عملنا مع مئات الباحثين من أنحاء العالم لإصدار كتابنا الشهري الذي يسلط الضوء على الأفكار والأسس الدينية التي استقت الجماعات المتطرفة والإرهابية من ينابيعها ، والظروف السياسية التي أسهمت في ولادتها، والبيئة الاجتماعية التي وجدت فيها عمقها، وفي المقام الأول كان اهتمامنا ينصب على إدراك الخيط الرفيع بين التشدد الديني، وكونه عاملاً في التطرف، والكراهية وغياب التسامح، ودور هذا التطرف في العنف الذي يمكن أن يجد مستندا له في التفسير الديني الذي يستدل بالقرآن أو الشريعة الإسلامية.
ومع وقوع الحدث الإرهابي المفزع في السابع من يناير الذي استهدف حرية التعبير في فرنسا وذهب ضحيته الأبرياء، و في غمار الصدمة التي عاشها العالم ، كان ناشطون إسلاميون آخرون يبثون عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعاطفهم مع المجرمين عبر مسوغات دينية تنبش من تراث المسلمين أبشع الآراء الدينية لدعم هذا الإرهاب. كانت تلك تعبر عن حقيقة أن بشاعة الإرهاب والقتل يجب ألا تجعلنا نتجاهل ذلك التطرف الكامن في الأفكار وأنماط التدين وفي المنظمات السياسية التي جعلت من الدين غطاء لأهدافها.
يعيش في فرنسا ملايين من المسلمين، ويتوزع ملايين آخرون في القارة الأوروبية، غالبيتهم الساحقة تدين الإرهاب وترفض العنف، وتنفر من الفكر المتطرف، وبعض منهم أعلنوا رفضهم وتعاطفهم مع الضحايا، ونخبة من مثقفيهم ومفكريهم وفقهائهم، كتبوا وأوضحوا مواقفهم، وعلينا أن نشجع هذه النخبة وندعمها لكي تمضي أكثر في حركة إصلاحية شجاعة، وأن تقوم بمهمتها في توضيح النصوص والاجتهادات الدينية والتفاسير التي سممت أفكار الشباب وجعلت منهم وحوشاً، يشكلون خطراً على مجتمعاتهم، ومساعدتهم في ترسيخ المواطنة. إنه رغم أن هذه الجماعات موزعة على عدة قارات، إلا أنها تكاد تتقاسم فكراً واحداً، وتفسيراً دينياً شبه متطابق، ويكاد يكون المنظرون لهذا الفكر هم القاسم المشترك بين هذه الجماعات.
لقد كتب كثير من المفكرين المسلمين حول فقه الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، ودار نقاش أكثر حول إسلام أوروبي يساعد شباب المسلمين على أن يكونوا مواطنين صالحين في بلدانهم التي ولدوا على أراضيها ويحملون جنسياتها، وفي مركزالمسبار أصدرنا مجموعة من الكتب حول المسلمين في أوروبا، كان أحد أهداف هذه الدراسات معرفة إن كان يمكن أن تكون لمسلمي أوروبا تجربة مختلفة يمكنها أن تكون مبعث إلهام لنا في منطقتنا العربية، وتقدم لنا نموذجاً يساعدنا لاجتياز أزمتنا الحضارية. ولكن يبدو أن الطريق مازال طويلاً، والمسؤولية اليوم تتضاعف على هؤلاء المفكرين، لكي يساعدوا شباب المسلمين في أوروبا أن يكونوا أكثر انسجاماً وتصالحاً مع مجتمعاتهم التي ولدوا فوق ترابها، وأصبحوا من مواطنيها. وعبر البرامج والمشاريع التي تشجع الحوار ونشر ثقافة السلام يمكن لمركز المسبار أن يكون شريكاً لليونيسكو في إحياء الأمل.
إن تفوقنا على أنفسنا سينبع من اعترافنا بالمساواة مع غيرنا، من أبناء الديانات والطوائف والمجتمعات والثقافات الأخرى والمختلفة، بتجاوز الأفكار العرقية والثقافية والدينية الصلبة التي تشوه علاقتنا بالآخرين، أن نمتلك الثقة لكي نعيد النظر في المسائل الحساسة التي تتطلب شجاعة لمناقشتها وإعادة النظر فيها، وأن نقبل الاندماج والتماهي مع ثقافات وديانات ومجتمعات مختلفة ويمكن أن أذكر بهذا الصدد قبول التزاوج بين أتباع الأديان بل وحتى قبول تحول الفرد من دين الإسلام إلى آخر.
يعتزم مركز المسبار عقد مؤتمر حوار الأديان في شهر سبتمبر القادم، يشارك فيه نخبة من المفكرين الذين يمثلون عدة ديانات. كما نسعى في الربع الأول من العام 2016 إلى إقامة ( المعرض الدولي للتسامح)، الذي ستشارك فيه منظمات ومؤسسات معنية بهذا المجال، وإقامة ورش عمل للشباب على هامشه تدور حول حوار الأديان والثقافات والسعي لتفعيل دور الفنون المختلفة وخاصة الموسيقى في تشجيع الحب والتسامح وقبول الآخرين.
إنني أتصور أن طريق التغيير يبدأ بثلاثة أمور أساسية. الأول هو تشجيع ثقافة الحوار والتسامح والتعامل مع المختلف. والثاني هو دعم أصحاب الخطابات الداعية إلى علمنة الإسلام أو إعادته إلى إسلام ما قبل الإسلام السياسي. والثالث هو إحياء فكرة التدين الفردي بين المسلمين، وهي فكرة لها جذور عميقة في التراث الإسلامي، ولكنها تحتاج إلى تشجيع معتنقيها والمبشرين بها وإبرازها.
وأختم بالقول إن كل ما نريده لن يتحقق ما لم يكن هناك احترام متبادل بين أبناء الديانات والثقافات، وأن تتحمل القيادات الدينية مسؤوليتها وما لم نعمل على نشر التعليم الذي وصفه نلسون مانديلا بأنه “أقوى سلاح يمكنك أن تستعمله لتغيير العالم”.
25فبراير2015