منصور النقيدان
كنت قد وعدت في تغريدة سابقة كتبتها منتصف شهر أبريل الماضي بأن أكتب مقالة عن زيارتي لسجن الحائر جنوب الرياض، ولقائي بإبراهيم الحضيف في زنزانته.
كنت قد حاولت مرتين خلال تسع سنوات مضت زيارة إبراهيم الحضيف، ولكنني لم أوفق.كوني صحفيا وباحثاً مهتماً بقضايا الإرهاب والتطرف، فقد أتيحت لي فرصة الزيارة لسجن الحائر في مايو 2013، ولكنها كانت مع المسؤولين عن السجن وحقوق الإنسان وأحد المسؤولين عن المناصحة والمراحل الأولى لتقييم المؤهلين لدخول البرنامج. لم أكتب شيئاً بعدها، فلم أكن متحمساً يومها، وكنت أعرف أن غيري عشرات من الإعلاميين السعوديين ومن العامة والوجهاء، ومن السفراء الأجانب ومهتمين بحقوق الإنسان قد قاموا بزيارة السجن.
ثم أتيحت لي زيارة سجن الحائر مرة أخرى في ربيع هذا العام في 22 مارس 2014 مع صحفي أمريكي كنت برفقته، وبعد تجوالنا في عنابر السجن، وفي مرافقه وفي مكتبته، وأثناء الجولة في مستشفى السجن، استأذنتهم إذا أمكن لي أن أعرف الوضع الصحي لإبراهيم، فقد أشيع منذ سنوات أنه مصاب بالسرطان، وقد سمح مدير السجن بكل لطف أن أسأل مدير المستشفى الذي كن حاضراً، وشرح لي كل مايشكو منه إبراهيم ومشاكله الصحية التي يعاني منها، استاذنت أن ألقي نظرة على ملفه الصحي وإن كنت لا أفهم شيئاً.في أعلى الصفحة الأولى من التقرير كتب عمر إبراهيم، وقد كان شيئاً مثيراً للمشاعر.لقد بلغ خمسين عاماً! لم أكن أعرف بالضبط كم كان عمره من قبل. دخل السجن وعمره 39 عاماً!
كنت على بعد عشرات الأمتار من زنزانته وسألت إن كان هو في الانفردي أو الجماعي، فأجابني أحد الضباط أنه في الانفرادي، لزمت الصمت، ومضى زميلي الصحفي ليكمل جولته، وهنا توقفت ورجوتهم إن يسمحوا لي بلقائه، وبعد مداولة لدقائق قليلة، تمت الموافقة، ولكني استأذنتهم أن يطلبوا إذنه فربما لايرغب إبراهيم بمقابلتي، وربما كان في وضع لايسمح برؤية أحد.
وافق إبراهيم، وحينما فتح باب الزنزانة، وكان برفقتي اثنان من المسؤولين في السجن، أحدهما يقال له ابوعبدالعزيز من مكتب حقوق الإنسان، رأيت إبراهيم واقفاً معتمداً على عصاه، تجمدت لثوان، لأن الموقف كان مؤثراً، ويبدو أنني ضعفت قليلاً، فاحتضنته وكان أقوى مني، هدأني هو وأبوعبدالعزيز. كان إبراهيم قد بلغ الخمسين عاماً، جلس على كرسي، وقد شاب شعر لحيته، أو وخطه الشايب، كان جسمه هزيلاً، كما كان دائماً، ولكنه هو هو، هو نفسه إبراهيم الذي لم أره منذ 11 عاماً. لدقائق كنت كأنني في حلم، سأله أبوعبدالعزيز إن كان له من احتياجات أو مطالب أو يشكو من شيء، وكان يشكو من بعض الآلام في رأسه، وأصر أن يأخذ في المستشفى أشعة، ويذكر أنه طلب ذلك كثيراً، وافقوا على طلبه. لم يكن راضياً عن الإعاشة، طالب بتغيير المتعهد بالإعاشة. قبل أن أدخل عليه قال لي أحد المسؤولين :” إن إبراهيم يلح منذ فترة على أن نجمعه بوليد السناني، ولكننا نحميه منه، هو يعتقد أنه قادر على تغيير أفكار وليد ولكن وليد خطر”. سألت إبراهيم هل هو في الانفرادي برضاه أم رغماً عنه، فأجاب بأنه مرغم على ذلك، طلبت التوضيح أكثر، قال: “أنا أريد أن أكون مع من يناسبني وليس مع أشخاص لايتوافقون معي ولا يناسبونني، لقد نقلوني إلى الجماعي مع أشخاص غير ملتزمين ولهذا طلبت أن أكون في الانفرادي”.
أجلت نظري في الزنزانة، كان هناك كتابة على يمين الداخل لم أتمكن من قراءتها، مكتوبة بالرصاص، والأكياس موزعة في الغرفة، وبعض الكتب التي لاتزيد عن سبعة أو ثمانية كتب، كان منها تفسير الأحلام، وكتاب العادات السبع، وبعض الشابورة.
وكان يتحدث مع أبوعبدالعزيز ويشكو من أنه لايعرف حكمه بعد عشر سنوات من السجن، وأنه قابل القاضي ولكن لايدري عن حكمه بعد، وقال إنه غير واثق من أنه لن يعود ثانية إلى السجن، لأنه كيف يأمن بأنه لن يطرق بابه ضيف مطلوب أمنياً وهو لايعرف عن هذا الزائر شيئا”.
وأشار إلى أنه لايمكن الرضا ولا القبول بأن يكون كبيرهم الذي علمهم السحر، وحرض الشباب وغرر بهم للقتال في سوريا، ولا أحد يحاسبه ولا يعاقبه، سألته يوضح من يقصد، ولكنه لم يقبل بأن يذكر اسماً.
ودعته وخرجت.
الانفرادي قاس على الإنسان، حتى لوكان ذلك بطلب منه، وقد جربته أربع مرات، لشهور، ولكن ليس لسنوات، حتى فكرتك عن نفسك وعن الآخرين وفهمك لكل مايجري خارج الزنزانة ستكون دائمة ناقصة ومشوشة.
زرت السجن في مايو 2013 وكنت بصحبة أحد الشباب السعوديين، وكان عدد من زملائي الصحفيين قد سبقت لهم الزيارة، في السنوات الخمس الماضية يبدو أن عشرات تمكنوا من أخذ جولة في السجن، ولكن الذين كتبوا هم قلة، والذين كتبوا بصدق هم أقل، والذين كتبوا بمديح وثناء معروفون أيضاً، ولكل واحد منهم وجهة نظره.
زيارتي للسجن وزيارتي لمركز محمد بن نايف للمناصحة، تستحق أن أكتب عنها بشكل موسع.
أعتذر عن تأخر كتابتي عن تفاصيل زيارتي لإبراهيم الحضيف، فقد كتبت تلك التغريدة في لحظات شفيفة وعاطفية، وقد لامني أكثر من صديق على عدم وفائي مبكراً بما وعدت به في تغريدة سابقة، ولكنني كنت حائراً كيف أبدأ وكيف أعرض التفاصيل، ولأنني أكتب عن شخص تربطني به صداقة قديمة، انقطعت منذ سنوات بعيدة، ولكنه مازال أخاً رغم أنني لم أكن وهو في السجن وأنا خارجه كما كان يأمل وتجاه أهله وأبنائه كما يتوقع ويأمل. نحن بشر نضعف ونجبن ونكون أكثر حذراً حينما نرزق بأبناء ونتقدم في العمر وتتشابك مصالحنا، وهكذا الحال معي. لقد كان والد إبراهيم الراحل إنساناً عظيماً، قوي الشكيمة ونسيج وحده، رغم أنه كان أمياً، وكنت أرى فيه أباً وعماً قل أن يتكرر مثاله،، ولكن العقل دفعني إلى الابتعاد والنأي بنفسي لما بيننا من تناقض في الرؤية والإيمان والفكر والميول. ؛ لهذا تأخرت وترددت في نشر تفاصيل زيارتي ، وأرجو أنني وفيت بوعدي.كان عندي بعض الصور من الزيارة ولكنني أضعتها، وتمنيت لو نشرتها مع هذه المقالة.
وأنا اشكر المسؤولين في سجن الحائر، وفي مركز الأمير محمد بن نايف الذين أتاحوا لي هذه الفرصة النادرة وأعطوني الثقة، فقد كانوا خلال أيام الزيارات واللقاءات مثال الخلق الرفيع والأدب والتواضع والصدق، والشفقة على إخوانهم السجناء، كما أعتذر إليهم عن أي سوء فهم نتج عما كتب حول زيارتي لإبراهيم الحضيف، وهم عليهم أن يتوقعوا مثل ردود الفعل هذه، إذا كانوا حريصين على أن يعرف كل صحفي وكل كاتب ومثقف وكل مهتم بعض مايجري ويفهم بعض مايحصل، من كل التيارات والتوجهات، وليس فقط من فئة محددة، وهذه ضريبة عليهم أن يتحملوها ويدفعوها، فلكل شيء ثمن.
منصور النقيدان
23 مايو2014