في أمسية من ليالي رمضان عام 2012 طرح ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان سؤالاً على مجموعة من رجال الدولة، ومن بينهم شيوخ من آل نهيان ومثقفون وكتاب صحف: ” ماذا لو أن الإمارات تعرضت لاعتداء في عقر دارها؟ ماذا لو استهدفت أبو ظبي بعمل عسكري من دولة كبيرة معادية لها أطماع إقليمية، وفي الآن نفسه حرك العدو عملاءه داخل البلاد، ليعيثوا فساداً، ماذا يجب أن تكون ردة فعلنا؟ ما هو القرار الصحيح الذي يجب علينا اتخاذه؟ “
أجاب بعض من الحضور بإجابات متنوعة، وفضلت البقية الاستماع إلى رأي الشيخ الذي كان تعليقه: “سندك عاصمة العدو من دون تردد، وسنقضي على العملاء في طرفة عين، وسنحمي وطننا”.
وفي خلال الأسابيع القلية الماضية، شهدت الإمارات العربية المتحدة إنجازين تاريخيين حظيا بتغطية عالمية إلى جانب اتفاق السلام الرئيسي بينها وبين وإسرائيل، أولهما إطلاق “مسبار الأمل إلى المريخ”، والثاني، هو نجاح تشغيل المفاعل النووي “براكة”، وهو الأول من نوعه في العالم العربي. وعلى الرغم من أن هذين التطورين لم يكونا مفاجأة لأنه خطط لهما وأعلن عنهما قبل سنوات إلا أن جذور الرؤية التي أثمرت هذين التطورين الكبيرين تمتد إلى عقود. وفي بلد حديث النشأة مثل الإمارات العربية المتحدة، وهو عبارة عن اتحاد تم الاحتفال بالذكرى الخمسين لإنشائه في كانُون الأَوَّل /ديسمبر الماضي، تعتبر هذه الإنجازات التقنية مهمة بشكل خاص.
قطعت دولة الإمارات العربية المتحدة طريقاً مضنياً في الوصول إلى هذين الإنجازين التاريخيين، القائمين على رؤية واضحة واستراتيجية طويلة الأمد وخطة تحقق الأهداف، وقررت أن تسلك طريقاً مضمخاً بالتعب والعرق والجهد الذي لا يتوقف ليلا ونهارا، والسعي الذي لا يكل ولا يمل لبلوغ مستوى يجعلها في مصاف الدول القادرة على حماية نفسها. كما تتمتع أبو ظبي بشرعية دولية ولديها تحالفات قوية مع قوى إقليمية ودولية عظمى، تجعل من مصالح الإمارات مصالحها وفي الاعتداء عليها اعتداء على أراضيها.
دولة قادرة على الدفاع عن نفسها
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، كانت الإمارات العربية المتحدة عضواً ثابتاً في أي بعثة عسكرية للأمم المتحدة لفرض السلام، حيث اكتسب الإماراتيون مهارات ميدانية واكشفوا نقاط قوتهم وضعفهم وتلقوا تدريباً رفيعاً تجلى في عاصفة الحزم 2015 التي شكلت فيها الإمارات القوة الثانية الضاربة والحليف الأكبر للمملكة العربية السعودية في حرب تحرير اليمن وهو ما أضاف إلى الدور الذي رسمته الإمارات لنفسها عمقاً أكبر، وعبر هذا التحالف ظلت الإمارات ترقب ذاتها وتقيس إمكانياتها وتكتشف أخطاءها وتراجع تجربتها.
في الثاني من أغسطس الماضي مرت ثلاثون عاماً على ذكرى احتلال صدام حسين للكويت ومحاولته ضمها للعراق، وعرفت هذه الكارثة بـ “حرب الخليج الأولى “، أو الأزمة الخليجية، انقسمت الدول العربية فيها، ومثلت دول الخليج العربية كتلة واحدة أمام الاحتلال. فالكويت دولة صغيرة وغنية دعمت صدام حسين في حربه ضد إيران، ولكنها كانت تجسيدا للمثل الإنجليزي القائل “حين تكون ضعيفاً فأنت ترسل دعوة للضواري”، فاستحالت لقمة سائغة لشراهة دكتاتور جريح خارج للتو من حرب طويلة مع إيران، ويعاني نظامه من أزمات خانقة، وفي لحظة من اليأس ارتكب واحدة من أكبر الحماقات في العصر الحديث.
في لفتة مهمة يذكر أحد المحللين أثناء إعدادي لهذه المقالة أن تلك اللحظة المرعبة في تاريخ العرب الحديث والمفجعة لدول مجلس التعاون الخليجي، كانت لحظة تنوير كبرى، حيث لمعت في ذهن الشيخ محمد بن زايد لحظتها فكرة ظلت مصاحبة له طوال الثلاثين عاماً التالية حتى يومنا هذا، عن معنى أن تكون دولة صغيرة محاطة بدول كبيرة، تهيمن على مجريات السياسة وذات ملاءة جيوسياسية، ومساحة كبيرة وموارد هائلة وكثافة سكانية، وهي حقائق تحدد بشكل عام مصير الأمم.
لكن هذا لا يجب أن يكون الحال دائمًا، ومنذ ذلك الحين، سعى الشيخ إلى بناء دولة قادرة على الوقوف على قدميها، كانت بدايتها بناء قوات مسلحة ضاربة، وقوات جوية من الأفضل على مستوى العالم، وجيش مدرب وفق أعلى المعايير، وتوطين صناعة الأسلحة.
وفي قصة ذات علاقة بهذا السياق يروي الكويتيون طرفة لها دلالة عميقة، عن سائحين كويتيين كانا يوم الاحتلال العراقي للكويت في القاهرة، وبعد ليلة عاصفة بالشراب سمع أحدهما الخبر من نشرات الأخبار على الراديو، وتحت تأثير الكحول بادر مسرعاً إلى غرفة صديقه وطرق الباب عليه صائحاً: ” الحقْ، الكويت احتلتِ العراق”، فرد عليه صاحبه الذي كان مخموراً مثله: ” إيهٍ، أعرفها زين، صغيرة ولكنها شرسة”. ولهذا يعتزم محمد بن زايد ألا يعيد التاريخ نفسه.
ملء فراغ القيادة الإقليمية
تمثل الشهور الأولى من عام 2011 لحظة الانكشاف الأكبر ألماً ووجعاً في الوجدان العربي، حيث بلغت أحداث الربيع العربي ذروتها، الزلزال الأكثر تدميراً في تاريخ العرب المعاصر، حيث سقطت أنظمة عربية، وكانت أكبر دولة عربية وهي مصر على شفير السقوط في هوة سحيقة من الفوضى. ولكن في الوقت الذي كان عدد من الرؤساء والقادة يعيشون قلقاً وحالة جارفة من اللايقين والشكوك والقلق، كان هناك قائد عربي واحد يرى أحداث الربيع العربي على أنها تنوع محزن لازمة الكويت، له نفس الجذور والعواقب. وقد ساعدت هذه البصيرة ولي عهد أبو ظبي على أن يصبح الزعيم العربي المرئي والمؤثر على مدى العقد الماضي.
وعلى الرغم من أن الإمارات لا تمتلك عمقاً جغرافيا واسعاً ولا كثافة سكانية تؤهلها لتكون دولة عظمى إلا أن محمد بن زايد عمل جاهدا على جعلها قوة إقليمية ضاربة، ضالعة في رسم سياسات المنطقة وذات موارد مالية كبيرة، ورؤية سياسية واضحة، تتمتع بتحالفات مع قوى عظمى تجمعها مصالح مشتركة، وتحتفظ بحسن جوار وعلاقات عميقة مع الدول المحيطة بها، ومع القوى الخارجية الأخرى مثل الولايات المتحدة الامريكية.
محليًا، سعى محمد بن زايد إلى تحويل البلاد إلى مركز مُلهم للتحضر ونموذج يجذب الشباب على الصعيدين الإقليمي والخارجي، كما ركز بشكل شخصي على الاهتمام بالعلوم والتعليم والتكنولوجيا والخدمات المالية.
بمقارنة عابرة كان كيسنجر يرى في بسمارك في القرن التاسع عشر واحداً من أعظم السياسيين “المثاليين”، وذلك وفق تفسيره للتاريخ ومصالح الدول والخيارات السياسية التي تضطر الدول إلى اتخاذها، فالسياسة ليست أكثر من اختيار أقل الحلول شراً، أو اختيار أفضل الخيارات السيئة.
ومع ذلك، لم يكن بسمارك حسب كيسنجر قادرًا على استخدام رؤيته لإدارة أزمات أوروبا اللاحقة منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، والعقدين المريضين بعدها، حيث كانت الحلول المرقعة والتسويات سيدة الموقف، وهو ما أدى الى نشوب الحرب العالمية الثانية.
في حين أن هذا المقال لا يمثل سوى تصوير جزئي للتغييرات التي تحدث في الإمارات العربية المتحدة، إلا أنه من المؤكد أن العرب في حاجة إلى دراسة حالة فريدة من القيادة غير التقليدية، منها دراسة ” معنى محمد بن زايد”. وقد تبدو الوصية النبوية العظيمة أن ” من لم يغزُ غُزي”، لائقة أكثر بالحروب الكلاسيكية في العصور الغابرة، لكن بالنسبة للدول الصغيرة، تظل هذه الحقائق خالدة حيث إن هناك حاجة إلى إبعاد الضواري عن أراضيها وشعوبها لحمايتها من الابتلاع.
إن القرن الواحد والعشرين هو بمثابة عصر الإغواء للدول الصغيرة في ظل انبعاث للحضارات التقليدية وتطلعها كقوى عظمى لدور أكبر في رسم السياسة العالمية وإعادة تشكيل العالم وتوزيع مناطق النفوذ. ومن ثم، يجب تطبيق دروس الماضي بشكل استباقي في هذا العصر حيث يعيش العالم العربي لحظة تفكك واندياح نحو الظلمة والانهيار.
تظل الإمارات العربية المتحدة عازمة على مقاومة هذه الاتجاهات، ففي شهر آب/أغسطس الماضي أعلنت الإمارات وإسرائيل عن اتفاق سلام مشروط بوقف الاستيطان، وكتب هافيف ريتج جور في تايمز أوف إسرائيل:” المبادرة الإماراتية توضح شيئًا واحدًا فوق كل شيء: إذا كانوا(الفلسطينيون) يرغبون في تغيير السياسة والسلوك الإسرائيليين، فعليهم أن يشرحوا بشكل مقنع للإسرائيليين أن الانسحاب ليس كارثة تنتظر الكثير من الناس، حسب توقعاتهم. لذلك، يجب على الفلسطينيين إقناع الإسرائيليين بأن لديهم ما يخسرونه، أو بالأحرى شيئًا يكسبونه قد يبرر خطر التخلي عن جزء كبير من مرتفعات الضفة الغربية”
بالنظر إلى هذه التطورات الرئيسية، يمكن وصف صيف 2020 بأنه اللحظة التي “وصلت” فيها الإمارات العربية المتحدة لتصبح قوة إقليمية على الساحة السياسية العربية، وذلك على الرغم من أن هذا هو نتيجة لعملية طويلة، مصحوبة بعدد من القرارات المتعلقة بالجغرافيا السياسية والموارد والأسواق والديموغرافيا وعوامل أخرى تتضافر بمرور الوقت.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل بالضبط، لكن المؤرخين العظماء يمكنهم وضع الشروط التي يجب تلبيتها لنهوض الأمم: الجيوش القوية في الميدان، والقدرة على مواجهة التحديات واتخاذ القرارات الصعبة، ومعرفة حدود الذات، والقدرة على التعلم من الإخفاقات والنجاحات، كل ذلك يكسب الدول صلابتها ومنها تنمو مخالبها.
والإمارات اليوم ترى في نفسها قوة إقليمية صاعدة خيرة، تراهن على العلم والتقنية والسلم الاجتماعي والتعايش والازدهار والتنمية والاستقرار، ولكن عبر سياج من القوة وحزمة من القوى الناعمة والصلبة للدفاع عن نفسها. يبدو هذا غير مرض لعدد من المراقبين والمحللين الغربيين، الذين يستكثرون الحراك ” الصاخب” للدبلوماسية الإماراتية، والتدخل لفرض الاستقرار في مناطق متعددة من الشرق الأوسط، وذلك على الرغم من فشل هؤلاء المراقبين في كثير من الأحيان في تحديد البديل.
إلا أنه من المؤكد أن الإماراتيين سيجيبون بأننا كما نجحنا في إقامة الاتحاد واستمراره، وكما تفوقنا في ترسيخ حكم رشيد قائم على التوافق والانسجام الذي تمتد جذوره إلى مئات السنين في أحلافنا القبلية، فنحن فوق ذلك قد أثبتنا أننا البلد العربي الأكثر استنارة وإلهاماً لجيل الشباب، كما تنافس أبو ظبي ودبي كل عام أكثر مدن العالم في جودة الحياة وطيب العيش.
وفي مواجهة الحكومة التركية التي يغذيها الحنين إلى العهد العثماني، كانت الإمارات العربية المتحدة أكثر ثقل موازن فاعلية بين العرب. لقد قاد المسار العثماني الأتراك إلى نفق مظلم انتهي بالدمار والسقوط، وسيحدث ذلك مرة أخرى. ولكل هذه الأسباب، ليس سابقاً لأوانه الدعوة اليوم بأن علينا نحن العرب أن ندرس جيداً “معنى محمد بن زايد”.
نقلا عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
متاح أيضاً في English