سمعت باسمه أول مرة عام 1997، كنت في زنزانتي في السجن في بريدة، وكنت أتابع برنامجاً سياسياً على الراديو من إذاعة قطر، وتركي الحمد واحد من ضيوفه. أثار اهتمامي من لحظتها. ولأني كنت بعد خروجي في طور التحول ومعنياً تلك الأيام بقصة الدين والعلمانية والليبراليين والشريعة، وكان تركي حاضراً في النقاش لا يغيب ذكره. وأذكر أني قرأت أول رواية له «شرق الوادي»، ثم قرأت «العدامة»، وقرأت له مقالات في الشرق الأوسط، وسلسلة مقالات لذيذة عن نهاية الألفية، الأحداث الكبرى والأعلام.
وقابلته أول مرة صيف 2003 في اجتماع مع وزير الداخلية الأمير المرحوم نايف بن عبدالعزيز، إذ دُعيت مع عشرات الصحفيين وشارك تركي بتعليق جريء حول الفلسطينيين، ودور السعودية تجاه قضيتهم. بعدها زرته لتعزيته في رحيل زوجته أم طارق رحمها الله. وقرأت رواية له ذلك العام اسمها «ريح الجنة»، لم تعجبني، وندمت على قراءتها. وبعد قرابة سنتين تلقيت منه رسالة واحدة على جوالي، بعدما عُرض فيلم وثائقي عني على قناة «العربية» نوفمبر 2005، كتب فيها: «لم أعرف أنك متزوج» وكان ابني يوسف وقتها في شهره الثالث.
أما لقائي الأخير عام 2009 فكان في حفل جائزة الشيخ زايد للكتاب في أبوظبي. ضحكنا فيها وتبادلنا النكات، وكان مساء بارداً حنوناً من ليالي نوفمبر. السنوات اللاحقة تابعت بعض لقاءاته، وبعضاً مما يكتبه. حيث بدأ ألقه الفكري يضعف، ومستوى كتابته يتراجع، وتغريداته على تويتر/ إكس كانت متفاوتة، وعام 2014 قرأت وأنا في زيارة لمكتب المدير العام للمباحث في الرياض رسالة كتبها تركي عن الوطن، عن المملكة ومجدها وملوكها العظام، وهي المرة الأولى التي أرى خطه. أهداها للوطن ونالت الحفاوة ومكانها اللائق بها على طاولة شمالك وأنت متجه إلى مكتب الرئيس.
شعرت نحوه بفيض في جوانحي يتعاظم مع السنين، مزيج من المحبة والرحمة والتقدير، وبعض شعور من الأسى جرّاء ما مرّ به في السنوات الثلاثين الأخيرة من فقد للأحبة ورحيل للأبناء، وبيانات تكفير، وتهديد بالقتل، وتعريض بإصدار حكم بردّته، وشماتة الأعداء جراء ما ناله من كروب.
رأيت فيه على الدوام إنساناً نزيهاً نقياً لا يعرف المكائد ولا الطعن في الظهر، وزادته عزلته، وندرة حضوره في العلن، وقلّة أصدقائه، ألقاً وجاذبية وغموضاً لدى معجبيه وقرائه. وحين كتب العام الماضي تغريدته الأخيرة يُطمئن فيها متابعيه والسعوديين أنه بخير قرأها الملايين وعلق عليها الآلاف. ويبدو أن من يحبه أضعاف من لا يحملون له الودّ.
علمت بمرضه قبل عام تقريباً، فانتابني ما يعصف بكل إنسان لفت انتباهه شخص مثل تركي. إنسان لطالما تمنيت لو كان لي صديقاً. رأيت صورة له قبل سنة تقريباً وهو في رحلة علاجه، فانقبض قلبي وران صمت في داخلي، وشيء ثقيل قاتم جثم على صدري. ربما أنني رأيت فيه نفسي، ومآل أمري، وغروب حياتي.
تركي الحمد، قصته، شاب حركي عابر في شبابه الباكر، ثم كاتب مثير للجدل، مفكر، وروائي، تركي بآلامه وأفكاره وتأثيره في جيلي، وملحمة صعوده، ثم ذبول عطائه في العقدين الأخيرين، ولحظات تضعضعه.
وحين يسدل الستار، بعد آخر شروق شمس سيكون شاهداً عليه، مبحراً في غموض الأبدية، محلقاً بجناحيه نحو دياره الأولى، تاركاً بعده قلوباً مكسورة ومهجاً خفقت بحبه، حينها سيدوي الدهر متحشرجاً بتأبين جوهرة عبرت عالمنا.
تركي الإنسان الذي أحببناه، والذي ظل مخلصاً لوطنه وولاة أمره.
منصور النقيدان
عكاظ – الجمعة 04 يوليو 2025