منصور النقيدان♦
في شتاء 1995، أتيح لي، وأنا في الزنزانة الانفرادية في سجن المباحث العامة في الحائر جنوب الرياض، أن أقرأ كتاب «نفح الطيب في تاريخ الأندلس الرطيب»، للمقَّري الأندلسي. استعرته من مكتبة السجن. قرأته في الشهر الذي قضيته هناك، قبل ترحيلي إلى سجن الرويس في جدة غرب المملكة.
عَلَقت بذاكرتي عن هذا الكتاب ثلاث قصص، لا يمكن نسيانها، لسان الدين بن الخطيب وأيامه الأخيرة الأليمة في فاس، وسجن الوزير المصحَفِي، والنهاية الأسيفة للمعتمد بن عبّاد وعائلته في سجن أغْمات. هؤلاء الثلاثة جمع بينهم السجن، وكانت لحظاتهم الأخيرة في السجن.
بعدها بسنة وستة شهور، طلبت إذناً أن يُسمح لي بكتابة يومياتي، وأنا في سجني في بريدة، في توقيف الإدارة العامة للمباحث؛ سُمح لي بذلك بعد أيام، ولكن همَّتي فترت، ولم أكتب شيئاً. كان العثور على قلم بين أغراضك، وأي أداة للكتابة، مخالفة يُعاقب النزيل عليها؛ إما بحرمانه من بعض الامتيازات وسحبها منه، أو بقضاء يومين أو ثلاثة في الزنزانة الانفرادية.
في سجن الرويس، في جدة، كان يمكن أن تتكفل صفعات على وجهك وسياط على ظهرك بالعقوبة الكافية.
لم يكن توقيف المباحث العامة في بريدة سجناً؛ كان أربع غرف، ولكنني قضيت الشهور الستة الأخيرة، قبل إطلاق سراحي، في هذا التوقيف. وبدلاً من أن أَفي بوعدي؛ بأن أكتب يومياتي، وأحتفظ بها في خزنة عند مدير العنبر، حسب الاتفاق، اخترت أن أكتبها على مناديل، وأهربها إلى أهلي في أثناء زيارتهم لي، كل أسبوع مرة، أو مرتين. ضاعت كلها. ستون منديلاً ضاعت، ولم أعثر عليها. غالب الأيام كنت النزيلَ الوحيد. كنت، في الشهور الستة الأخيرة، الثابتَ والمقيم، الآخرون كانوا زواراً وعابرين. كتبت وقتها رسالة من أربع صفحات، لوزير الداخلية، المرحوم الأمير نايف بن عبدالعزيز، أشكو فيها إليه من كلِّ ما رأيته من ظلم في جدة على السجناء، وأتظلم، وأستعطفه، كانت رسالتي خليطاً مشوشاً من الانكسار والاعتذار، والغرور والضياع، ووعداً مني أن أكون مواطناً صالحاً. كان أسلوبها بليغاً ومشرقاً، وروحها الصدق، وحبرها المعاناة والألم؛ فقد أخذت ثلاثة أيام وأنا أحررها، وأعيد كتابتها. كنت أتهيأ لمرحلة جديدة، وكانت نفسي تعز عليَّ؛ أن ألقيت بها في هذه المتاهة. كانت قد مرت عشر سنوات، منذ أول مرة أوقفت فيها، وأنا في أواخر السابعة عشرة، وكانت هي المرة الرابعة التي أُسجن فيها. ولكني كعطايا السماء، التي لم تنقطع عني، كنت محفوفاً بالحنان، موشى بالطمأنينة، وجُنبت مواقف الذل والمهانة.
لطالما قالت لي أمي: إنني أدعو الله لك، في كل صلاة، وكلما جزع النوم من عيني في السحَر، وفي ساعات الاستجابة؛ أن يحفظك الرحمن بعينه.
تغيرت الأمور إلى الأفضل، ونلتُ كثيراً مما طلبته. ومع الشتاء البارد، وزخات المطر، وحبات الرذاذ، التي تتسلل من شباك آخر غرفة أقمت فيها، قضيت عشرة أيام، وأنا أسحُّ الدموع، كلما قرأت صفحات من كتاب «بجعات برية». كان الكتاب حزناً مقطراً، وكنت بين التطهر وبين الشفقة على الذات، والقسوة عليها والخوف من المستقبل؛ أقضي ليالي الشتاء، التي مهدت ليالي سهادها لما تلاها لنصف عمري التالي. كنت وقتها ابن سبعة وعشرين عاماً، وأنا اليوم أحث الخطى إلى الثانية والخمسين.
كانت هذه الخواطر تمر بذهني، وأنا في الطريق إلى سجن الطرفية شمال بريدة، أوائل هذا الشهر الجاري؛ لزيارة صديقٍ أوقف قبل ثلاثة شهور، ولم أكن أتوقع أن أمامي الكثير من المفاجآت.
في حنان سجن الطرفية
“إنني اليوم أعرف معنى نعمة الحياة، أن أعيش إنساناً صالحاً”، قلت له: “تقصد أن تحيا في سبيل الله، هذا ما تقصده؟ ابتسم ولم يعلق. كان هذا السجين، الذي التقيته في سجن المباحث العامة في الطرفية ببريدة، قد انضم إلى جبهة النصرة في سوريا، ثم عاد إلى المملكة، ليقضي فترة حكمه.
قرابة ألف سجين يضمهم السجن، 60% منهم نجحوا في اجتياز الاختبار للحصول على عضوية أجنحة (إدارة الوقت)، وتشكل النساء 5% من نزيلات السجن. حسب ما ذكره لي مدير سجن الطرفية العقيد بندر الحربي.
زرتُ هذا السجن أوائل أغسطس الجاري، بعد أقل من شهر من احتفال (أجنحة إدارة الوقت) في سجون المباحث العامة التابعة لأمن الدولة. تتنافس سجون أمن الدولة في المملكة في تقديم أفضل إنجازات وابتكارات نزلائها على مستوى الفنون: الموسيقى والرسم والنجارة والنحت والكتابة والزراعة والعطور والخياطة والطهي والإلقاء، وغيرها. سواء كان السجين موقوفاً في انتظار صدور الحكم أو إطلاق سراحه، أو يقضي حكمه في قضايا الإرهاب أو غيرها من القضايا ذات المساس بأمن الدولة، يمكنه، إن توافرت فيه الشروط، أن يحصل على امتياز المشاركة في أجنحة إدارة الوقت. يخضع السجناء لاختباراتٍ عديدة حتى يجتازوها ويستمتعوا بمزايا إدارة الوقت.
يفخر مدير سجن الطرفية، العقيد بندر الحربي، بأنهم تفوقوا على بقية المناطق، وكافأوا أنفسهم بعد الحفل العام في الرياض، بإقامة حفلٍ خاص في سجن الطرفية؛ ليتمكن أهالي الموقوفين من المشاركة في الاحتفال. يقول: “لدينا ما هو أكثر، لدينا أعضاء في جمعية الثقافة والفنون، لدينا مفاجآت”.
شاهد: نزلاء سجن الطرفية في عيد الفطر
يضم سجن الطرفية أجمل الأصوات النسائية، التي شاركت في أوبريت أنتجه جناح إدارة الوقت، وشارك في المنافسة على مستوى المملكة. في أثناء جولتي، أتيح لي أن أشاهد الأوبريت، الذي أنتجه النزلاء. في قاعة المحاضرات التي أطلقوا عليها قاعة “إثراء”، عرض علينا اثنان من النزلاء الإحصائيات للتخصصات التي سجل فيها النزلاء، لم تكن دراسات العلوم الشرعية في مراتب متقدمة، بل جاءت إدارة الأعمال وغيرها في الصدارة.
تمنيت عليهم لو وضعوا الأوبريت على يوتيوب، ولكن يبدو، حسب ما فهمت من الإدارة، أنه لأسبابٍ أمنية، وأخرى شخصية تخص المشاركين، ومنهم المغنية، فلن يكون ذلك متاحاً. ثلاثة من السجناء حصلوا على عضوية جمعية الثقافة والفنون، ووقعت الجمعية اتفاقية شراكة مع السجن؛ لعقد ورش وتدريب السجناء.
يصدر السجناء صحيفتهم الشهرية الداخلية، وتزدحم الصحيفة بالمقالات التي كتبها النزلاء. حاولت الحصول على نسخة لقراءتها، ولكن لم يُسمح لي بذلك، فهي نشرة داخلية، كتب اثنان من النزلاء روايتين، ويبدو أنهما تأخذان منحى السيرة الذاتية، وهما يحلمان بنشرهما.
مع أذان صلاة المغرب، أخذني مدير السجن إلى المقهى الذي يشرف عليه ثلاثة من النزلاء الشباب، وحين ذهب للوضوء لم يكن معي أحد سواهم، قدموا لي نوعين من القهوة المتخصصة، قال لي أحدهم، واسمه عبدالعزيز: “أنا أعرفك، وكنت أقرأ لك، وتابعت حلقاتك على اليوتيوب عن بريدة، لماذا توقفت ولم تكملها؟”. كل القائمين في أجنحة إدارة الوقت هم من نزلاء السجن، حتى الأمن داخل هذه الأجنحة، الذي ينظم الدخول والخروج والتفتيش، والتأكد من البطاقات، هم من السجناء.
شاهد: مقهى بمواصفات عالمية في سجن الطرفية
وحسب مدير السجن، والنزلاء، فسيكون لهم الحق قبل نهاية هذا العام في التوسع في أعمالهم، وتوفير دخل مالي أكبر، وأرباح ينفقونها على مشاريعهم. قابلتُ اثنين من الطهاة، وهما يجهزان مطعمهما خلال الأيام المقبلة للافتتاح. عملاؤهما هم غالباً من الأهالي.
زرتُ قسم العطور، وهو متواضع الإمكانات، ولكنهم ينتجون عطوراً، أهدى إليَّ صانع العطور غرشة صغيرة، قال طلبنا التوسع، وطلبنا ما يساعدنا على إنتاج عطورنا الخاصة، ونحن الآن بالانتظار. أخذت العطر وقدمته لأصدقائي في الاستراحة بعد الزيارة. قلت لهم تعطروا. قريباً عطر “الطرفية” سينافس الأسواق.
عثمان وهو فنان ورسام، له عشرات اللوحات، باع واحدة منها في احتفال الرياض على أحد أعضاء وفد أمريكي، زار معرض الأعمال الفنية للسجناء.
قال لي النزلاء في إدارة الوقت إن شركة “باور” الآن ستكون هي التي تشرف وتدير وتنظم أنشطتهم، وسوف تساعدهم على الأعمال وتطويرها، والتوسع فيها، وسوف تساعدهم في تنظيم مواردهم المالية، سيكون الموظفون في “باور” كلهم من النزلاء أنفسهم. كانت مكاتب الشركة تحت التجهيز، ويبدو الجميع متحمساً. فهي ستضمن لهم دخلاً شهرياً ثابتاً، وسيكون لهم أيضاً الحق في الحصول على نسبة من الأرباح.
شاهد: نزلاء سجن الطرفية يحتفلون باليوم الوطني
قابلت في أثناء زيارتي ما يقارب ثلاثين من النزلاء؛ ثلاثة منهم كان الخجل يحول بينهم وبين الانطلاق في الحديث. اثنان أو ثلاثة كانوا متحفظين، بينما غالبهم كانوا منطلقين، غالبهم يشع الذكاء من أعينهم، لبقون، يحسنون الحديث، وتقديم أنفسهم، وشرح أعمالهم وأنشطتهم، ولماحون، فهم مدربون جيداً، واعتادوا أن يقابلوا زواراً غيري مراراً. قال لي مدير السجن “أبو يوسف” -كما يحب أن يناديه النزلاء- “غالبهم تعلموا هذه المهارات والحرف في السجن، نسعى لأن يكون لكل واحد منهم هدف، وبيده صنعة ومهارة تساعده إذا أُفرج عنه، نسعى أن يعيشوا مع أهداف وأحلام تساعدهم في أن يكونوا مواطنين صالحين”.
ولم أسأل أحداً ممن التقيتهم عن سبب وجوده في السجن، اثنان منهم، لا أكثر، ذكرا لي سبب سجنهما.
ثلاثة من أصدقائي هم اليوم موقوفون في سجن الطرفية. أُوقفوا في الشهور الأخيرة، لدواعٍ أمنية مختلفة، لم يُحَل أيٌّ منهم بعد إلى النيابة، ولا إلى المحكمة المتخصصة، لكنهم في الجناح الجماعي الآن.
قبل جولتي في السجن، كنت قد رفعت طلباً للقاء واحد منهم قبل زيارتي للسجن، وجاءت الموافقة خلال ست ساعات. في نهاية جولتي، التي امتدت ثلاث ساعات ونصفاً، أتيح لي أن أقابل صديقي قرابة الساعة، منحوا لنا الخصوصية وتُركنا وحدنا.
قابلتُ اثنتين من النزيلات في إدارة الوقت، كان الجناح فاخراً، وقامتا بشرحٍ موجز وخاطف لأنشطتهما، لم يكن التوقيت مناسباً، كانتا مشغولتين بحفلٍ لإحدى النزيلات، التي أُفرج عن زوجها قبل أسبوعين، وفي الصباح غداً سوف يستلم أبناءَه الذين كانوا مع أمهم، بعدما ساعدته الحكومة في استئجار بيتٍ وتجهيزه؛ ليكون مسكناً للعائلة.
ويبدو أن الزوجين من العائدين من مناطق الصراع، غالباً من سوريا. كانت إحداهما منقبة، والأخرى محجبة سافرة الوجه، ولكنها كانت مشغولة البال، كان اهتمامها منصباً على الحفل والترتيبات. رأينا صناديق الكيكة، في قسم الحلوى، وتغليف الهدايا. الحلوى تعد في جناح إدارة الوقت الخاص بالسيدات، وتُرسل إلى المقهى؛ لكي تعرض على مرتاديه من النزلاء، الذين يقارب عددهم في أجنحة إدارة الوقت ستمئة سجين.
العهد السلماني وتحولات اجتماعية جذرية
يقول لي والد أحد السجناء، الذي حضر الاحتفال السنوي لأجنحة إدارة الوقت في العاصمة الرياض، منتصف شهر يونيو الماضي: “في أثناء الحفل الذي جمع سجناء من جميع أنحاء المملكة، اختلطت العوائل بالسجناء، شبابًا وفتيات، جئت لأجل ابني الذي يقضي حكماً بالسجن في قضية ذات علاقة بتمويل الإرهاب، وصادف أن كان بجوارنا عائلة جاءت لتحضر الحفل، سلمت على الأب والأم وكانت معهما ابنتهما، وهي شابة يافعة، جاءت هذه العائلة، أسوة بغيرها من العائلات التي يشارك أبناؤها الموقوفون في الحفل السنوي لإدارة الوقت. سلم ابني على الأب والأم، ثم مد يده للسلام على الفتاة، دنا منها واقترب خطوة، وتقدم ليعانقها، استسلمت الفتاة له بهدوء، واحتضنته، لم تتردد، لم تجفل ولم تضطرب. كان الصمت سيد الموقف. غشينا -نحن الأربعة الكبار- وجومٌ، ما عدا البنت وولدي الذي كان الرضى يشع من عينيه، مرَّ الأمر بهدوء وسلاسة. كنتُ مصدوماً لثوانٍ، استفقت ودعوت لابنهما بالفرج القريب، ثم أخذت بيد ولدي بعيداً وانغمسنا بين الناس. قضيت وقتاً وأنا في خليطٍ من المشاعر ما بين الدهشة والإحراج، وضحكة مكتومة في داخلي.. كيف حدث ما حدث!”.
يقول صديقي، وهو نفسه مختص منذ سنواتٍ ببرامج تأهيل الموقوفين في قضايا الإرهاب ومكافحة التطرف: “كانت الموسيقى تضج في المكان، وصوت أنثوي جميل يصدح بالأوبريت، هذا كان إبداع جناح الوقت في سجن الطرفية في القصيم. عشرات العوائل التي جاءت من مناطق المملكة؛ لتحضر الحفل السنوي لأجنحة إدارة الوقت في العاصمة الرياض. يقول صديقي: بعد أيام زرت ابني الذي يقضي حكماً بالسجن لأحد عشر عاماً، قال لي: “تراه ذاك الموقف مع البنت لم يفارق مخيلتي، قلت له أعرف؛ فخيالها لم يفارقك بالتأكيد، أنت محظوظ، نظرت في عينيه، ثم ضحكنا”.
لِشَابٍّ قضى طوال حياته، وهو على مشارف السادسة والعشرين، لم يعرف غير أمه وأخواته، في مجتمعٍ يستعيب إلقاء السلام على غير ذات المحرم إلا لحاجة، وتعد مصافحة امرأة ليست من محارمك منكراً، فإن احتضان شاب لشابة “أجنبية” عنه هو شيء لا يمكن توقعه.
هذه القصة تختصر التحول الكبير الذي تعيشه السعودية اليوم، فالشباب هم عنوان التحول وجسر العبور إلى المستقبل.
مؤسسة أمنية محافظة قادرة على التكيف
وتعيش المجتمعات في فتراتها الانتقالية حالةً من الارتباك، وتفرز عمليةُ التحول القاسيةُ متلاحقةُ الفصولِ ظواهرَ اجتماعية سلوكية وأخلاقية، ومساءلةً للقيم والثوابت، وأحياناً تتجلى في حالاتٍ من التمرد المتطرفة، فثمة قديم لا يزال حاضراً، ومستقبل لما يزل في حالة مخاض، ويجب أن توضع في مكانها الصحيح، للعبور نحو بر الأمان.
زرتُ سجون المباحث العامة ثلاث مرات، في جولات إعلامية، كان أولاها عام 2014، قابلت يومها واحداً من المختصين بالتوجيه الديني وعضو لجنة المناصحة، الذي رفض الجلوس أو الحديث معي حين عرفني، ولم يفصح عن السبب، ولكنه دعا لي بالهداية ثم خرج. والزيارة الثانية لأجنحة إدارة الوقت كانت عام 2017، برفقة زملائي من مركز المسبار للدراسات والبحوث، وكانت زيارتي الإعلامية الثالثة والأخيرة في السابع من أغسطس الجاري لسجن الطرفية.
رائحة النظافة تعبق في أرجاء أجنحة السجن، أجنحته الكبيرة خُصص منها اثنان لجامعة القصيم، للراغبين في استكمال تعليمهم، بعض النزلاء حصلوا على الماجستير، والجناحان كما يبدو في طور التجهيز، وهناك قاعتان إضافيتان خصصتا لـ “المعرفة” وإثراء”، تقدَّم فيهما برامج تساعد السجناء على تطوير مهاراتهم وصقل مواهبهم.
كلمات الأغنية التي نافس فيها سجن الطرفية المناطق الأخرى كانت مفعمة بأهداف الرؤية التي يسعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى تحقيقها. هو القائد والملهم لهذا التحول الذي تعيشه السعودية.
المؤسسة الأمنية السعودية محافظة في الجملة، وهو التقليد المعتاد في أي مؤسسة أمنية في العالم، يمكنك أن تتلمس جذور المحافظة السياسية مظفورة بالمحافظة الاجتماعية في المؤسسات العسكرية. هي المصهر والبوتقة التي تتكثف فيها القاعدة الصلبة للروح الوطنية، والغيرة على قيم المجتمع، والحساسية الشديدة لكل ما يمس الاستقرار والسلم. وأن تكون خلواً من التسييس مع وعيٍ سياسي في الآن نفسه، وعيٍ يحمي بيضة الوطن من أي اختراق، هو العبء الأكبر المنوط بها. استطاعت الأجهزة الأمنية الانسجام مع التحولات الكبيرة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع السعودي. وهو تحدٍّ كبير لمؤسسة تقليدية راسخة الجذور في المحافظة.
في العهد السلماني تحث المؤسسةُ الأمنية الخطى للتخلص من شوائب علقت بها منذ عقودٍ طويلة، ولحسن الحظ أن القيادة السعودية واعية جيداً لهذا، وساعدها في ذلك أن المخلصين من قيادات المؤسسة الأمنية الحاليين احتفظوا في أكثر اللحظات قلقاً بعقيدتهم الصلبة، وضمنوا العبور بها إلى برِّ الأمان؛ لتكون مهيأة للقيام بدورها الكبير في التحول والانسجام مع مطبات هذا التحول، والتحديات الأمنية والإقليمية التي تعصف بالمنطقة، وتحتل المملكة بؤرتها، وهو ما تفتقده بعض مؤسسات الدولة التعليمية والدينية التي لا تزال تعاني من إرثٍ ثقيل يحتاج إلى سنواتٍ من العمل المتواصل والحكمة والصبر و”التطهير” مع السرية التامة، بعيداً عن الإعلام والاستعراض لتتخلص من آفاتها.
لحماية المجتمع من آفات التطرف والاختراقات الفكرية فإن التوافق في أدوار هذه المؤسسات هو أساس النجاح، وعلى الأخص أن ترتقي البرامج الإرشادية والتثقيفية وبرامج المناصحة إلى مستوى التحول الذي تعيشه البلاد، وأن تكون قادرة على الوصول إلى المرونة التي يتمتع بها أمن الدولة. وفي لحظةٍ تاريخية يشكل الإنترنت، والفضاء السيبراني، العاملَ الأكبر في التأثير على المجتمعات؛ فإن العبء يتضاعف مراتٍ.
♦كاتب إماراتي
لقراءة المقال PDF: في حنان سجن الطرفية