الرياض، المملكة العربية السعودية
جوزيف براودي
الطبيب النفسي عبدالله القرني له وظيفة ذات أهمية خاصة، فهو يعمل على معالجة الـ”جهاديين”. ويشغل منصب مدير قسم الطب النفسي في مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، و هو مركز يقدم المأوى والعلاج و التأهيل لأفراد سابقين من تنظيم القاعدة وغيرها من المنظمات الإرهابية، من الذين سبق لهم أن قضوا مدّة في سجون السعودية أو سجن غوانتنامو الأمريكي. يسعى المركز الى إقناع ” المستفيدين” منه لنبذ الإرهاب، ثم الإفراج عنهم وإعادة دمجهم في المجتمع السعودي. حيث يقوم مجموعة من رجال الدين بإلقاء محاضرات مستمدة من نصوص قرآنية لدحض النظريات الـ”جهادية ” والمتطرفة، كما يعمل مدربون على تقديم دروس مهنية لهم في مجالات أخرى.
ويقوم الدكتور عبدالله القرني باستعمال مناهج العلاج النفسي من أجل مداواة بعض المشاكل الشخصية للسجناء، التي ربما كان لها دور في تنمية و تعزيز الفكر ال”جهادي” لهم. كما يسمح لعوائل المسجونين بزيارتهم، مّما يسهّل من عملية العودة إلى البيت، ودمجهم في المجتمع لاحقاً. وتبلغ نسبة الانتكاس حوالي 12% حسب ما أفاد به القائمون على المركز، و من المؤمّل أن يصبح المركز نموذجاً يُحتذى في بعض دول المنطقة . وبالفعل، يعمل طاقم المركز الآن مع مسؤولين من الإمارات العربية المتحدة، واليمن لغرض تأسيس مراكز مماثلة في هذه الدول.
الدكتور عبدالله القرني بدوره، يؤمن أيضا بهدف أوسع، ألا وهو أن يشهد تحقيق الإصلاحات في طول البلاد من أجل الوقاية من نمو الفكر المتطرّف. القرني مثل عدد متزايد من الأصوات في الخطاب السعودي العام، يلقى اللوم على مجموعة من رجال الدين الحركيين في البلد بسبب وضعهم نموذجاً إسلامياً صارماً يفسر الدين عبر رؤية متشددة ومسيسة، ويعتقد أنّ هذا التفسير يساهم في التجنيد للإرهاب. إلا أنّ رأي عبدالله القرني يعتبر ذا مغزى خاص لكونهِ ليسَ شخصية اعلامية، أو أحد معارضي الأسرة المالكة، إذْ إنه رجل من أنصار المؤسسة الأمنية السعودية، وأنّ أراءه تشكّل نافذة الى الحوار في داخل الدولة حول مستقبلها، ويستطيع أن يقدّم منظوراً مختلفاً في قدرة البلد على تحقيق تغييرات ممنهجة، وهادئة.
س: ما هي المناهج النفسية التي تتبعها في علاجك للـ”جهاديين” في المركز؟
ج: نقوم باعتماد العلاج المرتكز على التخطيط والتشخيص من أجل علاج السلوك الmaladaptive للمستفيدين، ونعمل على تحديد ونبذ المعتقدات اللاعقلانية لديهم.
س: وما هي هذه المعتقدات؟
ج: هناك أحد عشرَ معتقداً لا عقلانية حددّها ألبرت أليس في كتابه “المنطق والعاطفة في العلاج النفسي”، وجميعها تثير قلقنا بالإضافة الى معتقدَين آخرين، قامَ بتحديدهما عالم النفس الأردني سليمان الريحاني، وهما ينطبقان بوجه خاص على المجتمع العربي. أحد هذه المعتقدات يحددّ طبيعة العلاقة بين الرجل و المرأة، حيث يكون الرجل هو أساس هذه العلاقة، و تأتي المرأة كدرجة ثانية، وأنا أرى هذا المعتقد سائداً في الثقافة العربية منذ العصور التي سبقت الإسلام. معتقد آخر هو الازدواجية والتناقض في السلوك الفردي للشخص، حيث يتم اتباع العادات الاجتماعية عندما يكون الفرد بصحبة أناس معينين، في الوقت الذي يتبع سلوكا وفكراً مخالفاً تماماً حين يكون الفرد ذاته في البيت بعيداً عن الرقابة الاجتماعية.
إذا آمنَ الانسان بنفسه، وبأنهُ شخص مميز وذو شخصية مستقلة وحرة، فإن عليه أن يتصرف إلى درجة كبيرة على نفس النحو في جميع الظروف، وهذا هو المبدأ الذي نحاول ترسيخه.
س: هل يعدّ المرض النفسي شائعاً؟
ج: تصيبُ بعض المرضى نوباتُ ذعر والبعضُ الآخر يعاني من الهوس القهري أوالاكتئاب، والبعض يعاني من متلازمة ” الجسدنة “، وهي الحالة التي يشتكي المريض فيها من آلام جسدية قد لا يكون لها مسبب مباشر، وهذا الأخير قد يكون نتيجة السنين الطويلة التي قضوها في السجون. نجدُ أنّ هناك آثاراً لاضطراب ما بعد الصدمة، ممّا يدفعنا إلى الاعتماد على الأساليب المرتكزة على علاج الصدمة، فضلاً عن العلاج المرتكز على التخطيط والتشخيص. هناك أيضاً مجال يحظى باهتمام كبير، وهو المزايا النفسية للمجرمين بشكل عام، ونعتمد في هذا على الاقتباس من كتاب “التعداد النفسي لأساليب الفكر الاجرامي”، الذي يدرّس كمنهاج في جامعة تكساس، لكننّا نقوم بتهذيبه لكي يتناسب مع مجتمعنا، وباستخدام إطار عمل مقارن أساسه البحث العلمي حول بعض المجرمين المعروفين في سجوننا.
س: لكن هل يمكن أنْ يعزى الفكر الجهادي إلى مزيج من العوامل النفسية فقط معزولاً عن الأيديولوجية والدين؟
ج: إنّ الذين يقولون إن الإرهاب يرجع الى أسباب و عوامل معينة فقط هم مخطئون، فالذي أقوم بفعله في المركز هو نهج متعدد يتناول النواحي الجسدية و النفسية والاجتماعية والدينية. ومع إنّ المناصحة الاسلامية مهمة جداً لإعادة التأهيل، ولكننا نؤمن بشدّة بأنّ الإرهاب لا دين له، ونحنُ نستفيد كثيراً من الدراسات المتعلقة بإرهاب منظمات غير إسلامية مثل الجيش الجمهوري الايرلندي، و نمور التاميل
س: كيف أصبح الإسلام مبرّراُ للإرهاب في السعودية؟
ج: السبب يعود الى كيفية تفسير الاسلام من قبل بعض ممن يوصفون بأنهم علماء الدين مثلا، في سورة آل عمران في القرآن الكريم يقول الله تعالى :”لا يعلمُ تأوِيلهُ إلّا اللهُ والراسِخونَ في العلْمِ يَقُولونَ آمنّا بِهِ كلٌّ منْ عنْدِ رَبِّنا”، ولكن بعض العلماء يقفون عند منتصف الآية :”لا يعلمُ تأوِيلهُ إلّا اللهُ والراسِخونَ في العلْمِ.” وبعدما يقنعون تابعيهم بأنّهم وحدهم الراسخون في العلم فيستخدمون نصف الآية لتبرير سلطتهم. إنّ كنّا ندّعي أنّ ديننا دين تسامح و سلام ونطالب بالسلم بين الأمم، فإنّ هذه الأسس المتطرفة المضللة يجب أن تتمّ معالجتها.
س: هل تقوم الحكومة السعودية بفعل هذا؟
ج: إنّ هذا المركز مثال على أن الحكومة تقوم بدورها، فبعد إلقاء القبض على إرهابي ونيله العقاب على أفعاله، فإننا نقوم باستقباله في المركز و نحاول إعادة تأهيله و تثقيفه و تعليمه من أجل أن يندمج في المجتمع من جديد، وهذا امر حسن، ولكن يبقى السؤال هو هل هذا الإجراء كافٍ؟ هل تقوم باقي القطاعات الحكومية بدورها في التغلّب على التطرّف؟
س: ما هي القطاعات التي تقصدها؟
ج: قطاع التعليم والمؤسسات الدينية. النظام التعليمي فيه مشكلة المناهج والمعلمين والمدرسين أنفسهم، فيجب علينا مراجعة مضمون المناهج والتركيز على الكادر التعليمي أيضاً.
س: ما هي بعض الأمثلة عن التغيير الذي ترغب في رؤيته؟
ج: على سبيل المثال أوّد أن يتم رفع الحظر عن تدريس الفلسفة والمنطق في الجامعات السعودية.
س: لكن الكثير من العلماء يرون هذه المناهج الدراسية كـ”بدعة وانحرافاً عن صحيح الاعتقاد”؟
ج: ومع ذلك فأنّ الفلسفة المعاصرة اليوم تدين في بعض حقولها ومناهجها بالفضل للحضارة الاسلامية، فنسمع دوماً عن “مدرسة فرانكفورت الفلسفية”، وننسى أنّه كانت في يوم من الأيام هناك “مدرسة بغداد الفلسفية”، في العصر العباسي، كما كانت هناك مدرسة غرناطة. الفيلسوف الإسلامي الفارابي ألف كتاب “المدينة الفاضلة”، كما كان هناك فلاسفة مثل الكندي و ابن سينا وابن رشد.
س: إذاً أنت تؤيد توسيع التعليم من منطلق التراث الثقافي الفلسفي الإسلامي؟
ج: هذا جزء من الحل، ولكن الجزء الآخر هو ببساطة بأن نقول: لا، الفلسفة ليست محرمة، والمنطق ليس محرّماً، و نحنُ نستطيع تعلمّهُ و تهذيبهُ بما يناسب مجتمعاتنا.
س: هل هناك علماء دين يمكنكَ اقناعهم؟
ج: يبدأ هذا عندما يشغل الرجل المناسب المكان المناسب.
س: ومن أين سيأتي الرجل المناسب؟
ج:هناك ثلاث جامعات إسلامية في بلادنا هي جامعة الامام محمد بن سعود هنا في الرياض، والجامعة الاسلامية في المدينة ، وجامعة أم القرى في مكة، وسيتخرج من هذه الجامعات الجيل الجديد من علماء الدين. أعتقد أنه من المفيد جداً أن ننظر الى نموذج الجامعات المسيحية في الغرب والتي لا تكرّس كل فروعها لتدريس الدين، فنجدُ فيها العلوم التقنية و الطب و ما الى ذلك. إنّ تنوّع الطلبة هو عامل مهم جدا في التغيير، و أنا اشجع هذا. على سبيل المثال، قامت جامعة الامام محمد بفتح أقسام للهندسة و الطب النفسي، وقامت جامعة أم القرى بفتح أقسام للهندسة والطب.
س: و فيما يخص المدارس العامة و المعلمين، ما هي الإجراءات التي ترى أنه ينبغى أن تُتخَذ من أجل مواجهة الرسائل المتطرّفة التي يتم نشرها في الصفوف؟
ج: في الولايات المتحدة مثلاً هناك لجان تعليمية تقوم بتزكية المعلمين، و لها أيضاً السلطة التي تسمح لها بسحب الشهادات والرخص التعليمية إذا اقتضى الأمر على أسس موضوعية، وفي السعودية لدينا مثل هذا النموذج في النظام الصحي مع لجاننا الطبية، لكننا نفتقدهُ في التعليم، أعتقد أن الوقت مناسب لتشكيل هذه اللجان في التربية والتعليم السعودي ولفتح الحوار حول المعايير التي يجب تقييم المعلم وفقاً لها.
س: كيف بإمكانك تحقيق هذا؟
ج: يجب البدء بهيئات التخطيط التي تقوم بوضع الخطط الخمسية والعشرية للوزارة.
س: يبدو إنّ هذه الخطة قد تستغرق وقتاً طويلا. ماذا عن الأطفال الذين هم في المدارس الآن؟
ج : ربما يكون من الأفضل أن تتولى المدارس الحكومية تعليم أساسيات الدين، وبعد ذلك يترك للوالدين الخيار في أن يكون التلميذ فقيها ومتخصصا أكثر في الدين، وهذه مسألة نبه عليها علماء مسلمون كبار، ومنهم ابن خلدون.
من خلال الزيارات العديدة التي قمتُ بها إلى كلّ من مركز محمد بن نايف، و أكاديمية نايف للأمن الوطني، والمباحث العامة، وسجن الحائر، ذي الحراسة المشددّة، تبيّنَ بأنّ عددا من مسؤولي القطاع الأمني يشاطرون عبدالله القرني الرأي، وأنّ انتشار مثل هذه التوجهات تؤكد ضرورة أخذها بنظر الاعتبار في الحوار الأمريكي بشأن قدرة السعودية على إحداث “تغييرات من الداخل”، والأمر ذاتهُ ينطبق وللأسف الشديد، في خيبة أمل العديد من المسؤولين الذين التقيت بهم تجاه الوزارات السعودية الأخرى، التي يشعرون بأنّها مقصرّة بواجبها تجاه الحدّ من التطرّف في البلاد.
وكانت مجموعة من النشطاء وجهات إعلامية ومراكز أبحاث، قد طالبت الرئيس أوباما خلال الايام التي سبقت زيارته للرياض في 27 مارس الماضي، بإدراج قضايا عديدة ضمن أجندتهِ مثل حقوق الإنسان ومسائل تتعلق بحقوق المساواة بين الرجل و المرأة، والإصلاح التعليمي. في هذا الصدد كانت منظمة العفو الدولية قد سألت أوباما أن يقوم بتعيين موظفة من “الحرس السري” كسائقة لسيارته الخاصة للتجوّل حول الرياض، كنوعٍ من الاحتجاج على قانون منع النساء في السعودية من قيادة السيارات، بينما قامَ البعضُ الآخر بمطالبة أوباما بإثارة قضايا خاصة، تتعلق بوضعية حقوق الإنسان في السعودية، أثناء المحادثات مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز. وفي خطوة يبدو أنها كانت مبرمجة لتتزامن مع زيارة أوباما، كان أحد مراكز الأبحاث قد سأل وزارة الخارجية عن سبب تأخرها في نشر دراسة جديدة حول الاصلاح في المناهج التعليمية. وتأتي هذه الجهود من الاعتقاد السائد أنّ زيادة الضغوطات الخارجية على المملكة ستسرع من الإصلاح الداخلي، كما أنّ هناك ميلاً إلى ازدراء “النهج الناعم” للولايات المتحدة تجاه الإصلاح في السعودية و تسميتهِ بـ”الخنوع” لقضايا أوسع، مثل أمن المنطقة والمصالح النفطية.
ولكن الاَراء التي نتجت عن حواري مع عبدالله القرني و زملائه، تفيد بأنّه ينبغي أن يدار حوار أكثر عمقاً وثراء في الولايات المتحدة بشأن الإصلاحات في السعودية، كونها تؤكد لنا أن الدولة السعودية ليست أحادية الاتجاه، وأنّ فيها العديد من الشخصيات و المؤسسات التي تدعم التغييرات التي تتوافق مع التطلعات الأمريكية. إنّ الرغبة التي أبداها عبدالله القرني بالتحدث معي بكل صراحة، وأنا باحث أجنبي لا حكومي، تبين لنا بأن الحكومة السعودية أصبحت اليوم تستوعب النقد الذاتي، وتتمتع بخطوط أكثر عرضاً للنقاش من ذي قبل. كما تفيد بأنه ينبغي ألا تكون الحكومة الأمريكية الطرف الوحيد الذي يتخاطب مع المؤسسات السعودية في الحوار النقدي، ولذلك فإنّ مسألة الاختيار بين “الضغوطات الخارجية” أو “التغيير من الداخل” قد تكون قسمة غير صحيحة، و ربما من المطلوب أن تلعب الولايات المتحدة دوراً أكثر تراضياً في تشجيع الإصلاح الممنهج، والهادئ الذي تعمل عليه القيادة السعودية.
المصدر: المعهد الأمريكي لأبحاث الشؤون الخارجية FPRI
أبريل 2014
الحوار الأصلي بالإنجليزية