نقلا عن مجلة درع الوطن
منصور النقيدان♦
صباح 15 مايو (أيار) 1975 في البيت الأبيض. دار هذا الحديث بين شاه إيران، ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، والرئيس الأمريكي فورد:
الشاه: المثقفون سيدمرون العالم من دون أن يعرفوا كيف يصنعون بديلًا أفضل، ليس لديهم بديل، سيصبحون عمالَ زبالة يكنسون الشوارع في أي نظام شيوعي..
كيسنجر: الغرب يمكنه شراء ذمم المثقفين بالمال. رواتبهم ضعيفة، ويرغبون أن يصبحوا من الطبقة الوسطى العليا. ولكنهم حاليًا يبغضون النظام الرأسمالي بدلًا من تقديم الدعم له..
الشاه: هذا صحيح، سيكون من السهل وضع بروفيسور في مجلس إدارة..
كيسنجر: “يجب الوصول للبروفيسورات لأنهم هم الذين يكتبون، ويضعون السم. الإجلاء القسري لعاصمة كمبوديا بنوم بنه، يسمونه تمرد الفلاحين، على الرغم من كونه إجباريًّا ومِن فِعل «الخمير الحمر»، أي الحزب الشيوعي”.
إنها قصة ذاتُ دلالة عميقة.
وفي شتاء العام 2000 كنت مع اثنين من الأصدقاء على العشاء ضيوفًا عند عبدالله الحامد، وكان أستاذًا للأدب الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود لإسلامية، استشارنا الحامد في أن يقبل دعوة وزير الداخلية السعودي المرحوم الأمير نايف بن عبدالعزيز بأن يكون مستشارًا عنده، من دون منصب، إن أراد. كان الحامد قد عمل لسنواتٍ، منذ تسعينيات القرن الماضي، على أجندة سياسية مع مجموعة من زملائه من الإخوان المسلمين، وسعوا لحشد شعبي ضد العائلة المالكة، وتعرض بعدها للمساءلة وللسجن مرتين.
اقترحنا عليه نحن الثلاثة أن يقبل الدعوة؛ لأنه سيرضي ضميره، ويخدم وطنه، وهي ثقة لا يحصل عليها كثير ممن سعوا إليها. ولكنه كان يعرف أن ثمن هذه المنزلة هو السيطرة على نزوات الظهور والتبجح في وسائل الإعلام أو عبر القنوات الفضائية. كانت العقبة التي تحول بينه وبين قبول العرض هي أن يقمع طموحه السياسي.
وأثبتت السنوات اللاحقة، بعد ذلك، كيف كان مصير مساعيه الحثيثة نحو الإصلاح السياسي والحكم الرشيد حيث آل به الحال عام 2004 إلى تزوير تواقيع لمثقفين سعوديين على عريضة أعدها تطالب بالإصلاح السياسي، وبعدها بسنتين حرض عددًا من النساء الضعيفات المكسورات، مستغلًا أوضاعهن النفسية المتردية، والتأثير السلبي للدعاية السيئة، وتحريضهن على التظاهر، وعند طلب شهادته أمام القاضي تنصل وأعلن تبرؤه من مواقفه التي أثبتها الشهود والاتصالات الهاتفية ورسائل الجوال.
وفي سنواته الأخيرة تخلى عنه حواريوه، وتنصل منه الأقربون منه، وخسر ثقة من منحوه دعمهم، واستحال مشروعه لإصلاح سياسة دولة إلى صراعات في زنازين السجون مع من تبقى له من رفقاء دربه الذي تورطوا في أحكام سجن طويلة. وحين رحل قبل أسابيع، لم يتباك عليه إلا وسائل إعلام دول معادية، والميليشيات والمنظمات السرية ومجاميع اليسار كالعادة.
ما من إنسان إلا هو خاضع أو منجذب لمؤثرٍ ما، المثقف ليس استثناء، فهو مشدود لسلطة خفية أو ظاهرة، سلطة المال، الجمهور، الأطماع، ولأهدافه الخاصة. قد يكون المثقف معبرًا عن توجهات الحكم، أو النظام السياسي، كما كان فرانسيس بيكون، وميكافيللي، كلاهما كانا تابعين ومنظِّرَين لسلطة سياسية، وابن خلدون كان الشيء نفسه. وقد يكون فقيهًا كالقاضي والمفسر أبو السعود الذي كان داعمًا كبيرًا لإصلاحات السلطان سليمان القانوني.
مفهوم المثقف طارئ وحديث، كما أنه مرتبط بتحولات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وهو في نفسه مفهوم مثقل بالالتباس والشبهة، ومتخم بالنزعة الثورية والتمرد، وطافح بالغرور والادعاء، واليوم نشهد بروز مفهوم “المثقف المتدين”، وهذا النموذج يكاد يكون مطابقًا لثوريي الإسلام السياسي، الذي يقابل “الفقيه التقليدي”، و”المثقف الليبرالي”.
قد يكون المثقف، مؤمنًا عن إخلاص بكثيرٍ من توجهات الحكم الذي يعيش في ظله، ولكنه أيضًا يعبِّر باستقلالية عن وجهة نظره، التي تتطابق كليًّا أو جزئيًّا مع أهداف النظام السياسي الذي هو محسوب عليه. ولكن، كثير ممن نضعهم في خانة المثقفين المستقلين، ينقادون إلى مجاملة شعارات مضرة بمجتمعاتهم وبالسلم الوطني؛ لأنهم يريدون إرضاء جمهورهم الذي لا يشبع نهمه إلا التمرد على السلطة السياسية. هذا النوع من المثقفين لا يتنبهون جيدًا إلى أنهم أصبحوا أداة وبوقًا لنزوات العامة. إنهم في الحقيقة غير مستقلين خلافًا لما يبدو، ومحصلة نزواتهم وتقليعاتهم الفوضى والعدمية.
عرفت الحضارة العربية والإسلامية أعلامًا عظامًا، مثل الجعد بن درهم، والمعري، والحارث المحاسبي، والجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وابن تيمية، وبشر الحافي، وهم تنويعةٌ تشمل المتكلم والزاهد والمفكر والعالم والفقيه والأديب والكاتب، والمثقف الذي يعبر عن قناعته قدر ما تسمح له الظروف. وهم بشر، كلُّ واحدٍ منهم كان خاضعًا لسلطة غير مادية، أبو ذرّ لتركيبته النفسية وانعزاله ورهافته، ابنُ تيمية لمذهبه ولطبيعته الشخصية، وميوله وتبعيته للسلف الحنابلة، أبو العلاء كان لظلالِ عاهته، وعزلته وتشاؤمه ونظرته السوداوية للمجتمع، تأثيرٌ كبيرٌ في فلسفته وتصوره عن المجتمع والأمراء والملوك والديانات.
المثقفون المحترمون هم متوافرون دائمًا، ولكنهم قد يتفاوتون نسبة وعددًا ووعيًا، وبعض منهم لا يحسن الإفصاح عن نفسه، ولا يتقن الدعاية لكي يبني حوله هالة من الجاذبية، تضمن له المعجبين والأتباع. منهم من قد يكون غافلًا، لا يمتلك وعيًا بدوره، وعن ذاته، ومدى تأثيره.
بعض من قد ننظر إليهم على أنهم مثقفون مستقلون، هم مأسورون لسلطة خارج الحدود، ما وراء البحار، يراعونها ويلحظون رغبتها، ويتماهون مع نزواتها، ويبادرون إلى إرضائها، لكنهم غير مكشوفين لنا؛ لأننا نرى فيهم وجه القمر المضيء، ولكننا لا نرى فيهم الوجه الآخر المعتم. علينا أن ندرك جيدًا أن الثمن الذي قد يقبضه المثقف قد لا يكون مالًا ونقدًا، فهناك وجوه كثيرة لأثمان المواقف.
الحريات ربما تصنع شيئًا مختلفًا تعطي الفرد بحبوحة من الخيارات، ولكن نعلم أنهم إن لم يكونوا تابعين لسلطة سياسية أو طائفية أو دينية أو مذهبية، فهم خاضعون لرغبات وسائل الإعلام، لدور النشر، ويدركون جيدًا أن ما يكتبونه قد لا يجد طريقه للنشر، ولا يمكن الحصول على عائدات تمكِّن المثقف من امتلاك بيتٍ فارهٍ، وتوفير رصيد محترم، ما لم يكن ما يكتبه مرضيًا للناشر.
فتِّش دائمًا عن أثمان المواقف، لتعرف أن المثالية التي ينادي بها مثقفون وإعلاميون ومعارضون لا وجود لها، ستكتشف أن بعض من يحرق لهم البخور، هم لصوص امتهنوا إخفاء رائحتهم الكريهة. وقلة فيهم من أفنوا دهرهم (كبدًا مقرحة وجفنًا أرمدا).
إن مصارحة الذات في مساعيها الحقيقية، ومواجهتها تحتاج إلى شجاعةٍ وصدق. قبل قرابة عشر سنوات، كنت في حديث مع شيخ في الستين من عمره، قال لي:” المثقفون يحتاجون إلى التربية قبل حاجة الناس إلى ما يقولونه وما يكتبونه، يمكن للواحد أن يكون مجافيًا للنظام متظاهراً بالاستقلال، ولكنه لغشاوة على عينيه وعقله وسحابة مظلمة من الشهوات الخفية و”حب الرئاسة”، يكون أسيرًا لرغبة الزعامة، وقد يصبح دون أن يشعر عدوًا لوطنه وأداة بيد أعدائه”.
إن قصة القُرّاء في القرن الأول الهجري في ثورتهم ضد بني أمية، ذات دلالة عميقة، حيث انساق فقهاء عرب أقحاح وصالحون يتعففون عن نقطة دم وعن درهم حرام، في حركةٍ كان الشعوبيون والفرس يقودونها ضد الأمويين، فولغ الأتقياء في قتل الأبرياء، وتحولوا إلى شبه قطاع طرق وتشردوا في الآفاق، ونال كثيرًا منهم الندمُ، ومنهم من هلك في الحروب.
ومثال معاصر على ما يمكن أن يتورط فيه المثقف، فقد واجه الحائز على جائزة نوبل الروائي الروسي سولجنيستين مؤلف رواية «أرخبيل الجولاج»، الهجران والاحتقار من مواطنيه الروس، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، عام 1974 اعتبره الاتحاد السوفيتي خائنًا، عاد من أوروبا إلى وطنه الأم 1994 بعد تفكك الاتحاد السوفيت، وفي خريف حياته كرمه الرئيس بوتِن، ولكنه عاش مهجورًا منبوذًا من الروس البسطاء أنفسهم. فقد كان في نظر أمته خائنًا ومحرضًا، وكان في نظر الرأسمالية الغربية بطلًا، أسهم في الدعاية السلبية للشيوعية، ولكنه اختار أن يموت في وطنه.
♦مدير “حرف آند فاصلة ميديا”
المصدر: مجلة درع الوطن
لقراءة نسخة PDF من المقالة: اضغط هنا