منصور النقيدان
نشرفي صحيفة الوطن السعودية بتاريخ 18/11/2001
3/رمضان1422 العدد415
جاء لقاء ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بالعلماء وكلمته التي ألقاها على مسامعهم في مرحلة حاسمة ومنعطف تاريخي،وظروف عصيبة تمر بها الأمة الإسلامية.منعطف سيكون له-حسب اعتقادي- انعكاساته المستقبلية في علاقة الإسلام بالآخر، والغرب على وجه الخصوص، وستساهم هذه المرحلة بتداعياتها في تشكيل فهم جديد،وإعادة النظر في كثير من الرؤى والقضايا الدينية. لو رجعنا إلى تاريخ الأفكار والمذاهب في الحضارة الإسلامية لرأينا أنها نشأت مرتبطة بالتغير الحضاري.فحين وقع التغير الجذري في فاتحة الدولة العباسية،جاءت المذاهب استجابة لتغير شديد،وأمتنا الإسلامية اليوم ومنطقتنا على وجه الخصوص تمر بتغير مماثل للذي حدث في البدء.
ولكنْ.. ثمة فارق كبير بين الحالة التي نعيشها اليوم والتي مرت بها الأمة في المرحلة الأولى، فقد كان الفقيه فيها متزامناً ومتعاضداً مع الهدف الحضاري نفسه، ففي بغداد كانت الحضارة،والدرس الديني في المسجد متزامنين في الوقت ذاته ويتشاركان الرقعة نفسها.
اليوم يلقي الشيخ والفقيه درسه في أرض وتربة مختلفة تماماً عن منبع الحضارة المعاصرة.الدرس الديني يقع في المسجد حيث العالم الإسلامي، والحضارة المعاصرة في الغرب.مما يعني أن علماء الأمة ومشايخها لابد وأن يستدعوا العامل الحضاري أيضاً عند الحديث في أي قضية دينية، فعلماؤنا مطالبون بأن يعوا عصرهم وظروف عصرهم، والمسلم ليس فتىً يعيش في نجد معزولاً عن العالم، فلا ينبغي أن يتحدث الفقيه معبراً فقط عن ذاته القارة الهادئة المطمئنة التي قد لاتعاني من مشكلة،ولكن يجب أن يفكر ويتحدث انطلاقاً من كون الإسلام عالمياً صالحاً لكل زمان ومكان.وهذه الصلاحية تستوجب استدعاء الواقع الحضاري اليوم في عقلية الفقيه لكي يفتي على هذا الأساس.
…جاء تنبيه ولي العهد السعودي للعلماء بأن أمتنا الإسلامية تمر في أيام تعتبر عصيبة وأن “الواجب علينا التأني والتوضيح لإخوانكم بالكلمة الطيبة لأنكم الآن هدف للمغرضين للعقيدة الإسلامية” ليشكل رسالة واضحة على أن العالم الذي يتصدر للإفتاء والتوقيع عن رب العالمين عليه أن لا يكون ضعيف المعرفة بطبيعة الصراع الدولي ومبررات الحراك السياسي، وأن لايغيب عن ذهنه عند الحديث باسم الدين اعتبار الزمان والمكان وإدراك فقه الواقع في كل مسألة ونازلة، ومايمر به المسلمون من حالات ضعف وقوة،وتمكين واستضعاف، حتى لاتكون فتواه -دون وعي منه- سبباً في تأجيج الفتن وإثارة الفوضى!
أوصى ولي العهد السعودي بالتحري للكلمة المعقولة لخدمة الإسلام و أن لا تأخذ العلماء العاطفة أو أن يستفزهم أحد لأنهم مسئولون فرداً فرداً أمام الله جل جلاله وأمام شعبهم…….”لأننا الآن في وقت يلزمنا التحري بالضبط لكل كلمة تطلع منا” وهذه بمثابة رسالة واضحة الدلالة على أن من صفات العالم أن يمتلك لغة حية قادرة على توصيل المعاني الدقيقة خصوصاً في مثل هذا الظرف العصيب الذي يتطلب وضوحاً تاماً في المعاني والمصطلحات، والحذر من الكلمات الموهمة أو التي اكتست عبر المتغيرات الحضارية والثقافية معنىً آخر مغايرا لمرادها ومعناها في المصطلح الشرعي مما يترتب على إطلاق نفيها أو إثباتها إشكال في الفهم وبلبلة في التفكير، وخذ على سبيل المثال إصرار البعض من أصحاب النوايا الحسنة على التعبير بأن الإرهاب من الإسلام والاستدلال بقوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ….) (لأنفال:60) ويغيب عنهم أن كلمة الإرهاب في اللغة العربية والمعنى الشرعي للآية القرآنية الآنفة الذكر تحمل شيئاً من مضامين الاحترام والشعور بالمهابة، وأن ذلك قد خرج اليوم عن المدلول الذي حمله قديماً في لغتنا العربية، وفي توظيف القرآن الكريم له.
إن التحفظ في التعبير والعناية الدقيقة في اختيار المصطلحات،وإدراك حمولة كل لفظ ومصطلح هو من الدلائل الواضحة على رزانة العالم وفقهه في الشريعة،وقد تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية عن أن يكتب في الوثيقة التي وقعها مع مشركي مكة (محمد رسول الله)،واكتفى بذكر اسمه (محمد بن عبدالله) لما رأى معارضتهم .
ومثلت إشارة ولي العهد السعودي إلى أن علماء هذا البلد غدوا هدفاً للأعداء المغرضين الطاعنين في العقيدة الإسلامية، والتحذير من الغلو في الدين،وتكرارها من قبل سموه ثلاثاً، رسالة مضمنة تحذيراً شديداً من الاستعجال أو الانزلاق بإطلاق أي فتوى أو حكم يتناول مسائل حساسة ومحرجة كعلاقة المسلم بالآخر غير المسلمً، أو الحكم عليه في دمه أو ماله في ظل هذه الفتن التي يموج بها العالم، والبعد عن كل ما من شأنه أن يفتح جبهات ومداخل يتخذها أعداء الإسلام غرضاً في الطعن بالإسلام وقيمه العليا وتعاليمه السمحة.
وهذه دعوة إلى مراجعة الفتاوى التي تناولت المسلمين من الطوائف الأخرى والتي كان لها انعكاس سيئ على مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة، والوحدة الوطنية في المقام الأول، والتي لم يترتب عليها إلا إشعال نار الفتن، والتفرقة بين المسلمين، وقد رأينا نتيجة كثير من الفتاوى متمثلة بأفكار متشنجة لا تأسف على ذهاب الشهداء من المسلمين في فلسطين، بزعم أن هؤلاء ” اليهود” كفار يقتلون مبتدعة”الفلسطينيين”! كما تمثلت بذم مسلمي البوسنة البوسنة والشيشان ومقاومتهم ضد الاحتلال والقتل والاستئصال العنصري مرتكزين على أقوال عجيبة وجدوا لها ما يسوغها في فتاوى بعض العلماء و كتب العقائد القديمة والحديثة التي يدرس بعضها في حلق العلم وفي مساجدنا.
أعتقد أن مانعيشه اليوم من تغيرات جذرية يعيشها العالم والانفتاح الإعلامي في مجتمعاتنا، يمثل فرصة تاريخية لاتزال مفتوحة وممتدة أمام جهود التغيير والتجديد ولإحداث حركة تصحيحية كبرى ،وضخ دماء جديدة في المؤسسة الدينية تمدها برواء الحياة، والقدرة على التكيف مع المستجدات، بدلاً أن تفاجأ بأزمة خانقة وفقر في مستوى الخطاب المقنع للجمهور أو الأفكار الناجعة.فالأغبياء فقط هم الذين لايتغيرون.
هناك نمطان من التغيير :نمط النزق والخفة والنزوة،ومثل هذا التغيير لاينتج إلا العقم والفشل وسوء السمعة الخارجية، وبلادنا شهدت مثل هذه التقليعات في فترة مضت ثم انزوت وتآكلت وتكشف للناس سوءاتها، ونمط من التغيير يتمثل بإجراء مراجعة صارمة وموسعة، يبدأ بضبط المفهوم، ومن ثم سلوك مسلك الإصلاح داخل الإطار وداخل المؤسسة، و هذا النمط الرشيد من التغيير والتجديد لابد أن يكون مقترناً بتشجيع إرادة الإصلاح المتدرج الهادئ داخل الإطار،لاسيما والأصول قويمة والجوانب الإيجابية التي ينبغي الحفاظ عليها كثيرة ومتنوعة، وينبغي أن يقر هذا التصور في أذهان الذين يحبون الإصلاح،بخطاب مضبوط غير سائح،ولاحمال أوجه ولا مستدبر للهدف، فإذا كان الإطار العام موضع تسليم واتفاق فيجب أن لايصدر أقوال يفهم منها غير ذلك.
ويأتي ضمن هذ ا التغيير الصادق المراجعة الشاملة لكثير من الأفكار الدينية التي أتت بها بعض الدعوات الإصلاحية والتي انعكست آثارها الإصلاحية على العالم الإسلامي،و مثلت طليعة للحركات الإسلامية التجديدية الحديثة،بإقامة العلاقة بين الدعوة الإسلامية وإقامة المجتمع الذي يطبق منهاج الشريعة، والتي أعطت مرتكز العقيدة، وتجريد التوحيد عناية ظاهرة، ولكن بما أننا نعلم أن اجتهادات العلماء ومدارسهم وتفسيراتهم ومحاولاتهم لتطبيق فهمهم للإسلام عرضة للصواب والخطأ وأن ليس أحد معصوماً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ،وأن كلاً يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول عليه السلام” فإننا بحاجة إلى إخضاع أفكارها للنقد والمراجعة، وامتصاص بؤر التوتر فيها، والقضاء على منابع القلق ومناطق التوظيف المغرض،وتفعيل ماتضمنته من إيجابيات،وفتح المجال رحباً للنقد والمراجعة الصادقة.
يتميز الإسلام بأنه لايوجد فيه هيئة دينية عليا تقرر ماهي -بالتحديد- العقيدة الصحيحة المستقيمة نظراً لوجود آيات محكمات وأخر متشابهات و عدم قياس ثابت متفق عليه إجماعاً لتحديد الفاصل القاطع بين استقامة العقيدة والمروق عنها. إضافة إلى عوامل الاجتهاد والتأويل والإجماع الظرفي المتغير بذاته مع الزمن، والعرف والظروف البيئية ونوعية العقلية السائدة في تحديد مواقع الأنماط الفكرية.فعدم وجود هذا القاطع “الرسمي” بين الاستقامة والانحراف يدفعنا غير مخيرين إلى ضرورة النقد الداخلي والشجاعة والصدق مع النفس،والسماح للآراء الأخرى الراشدة بالتنفس، والتعبير عن وجهات نظرها مهما كانت قاسية، ومهما كانت جارحة للكبرياء.
إن من أهم المسائل التي تستوجب من علمائنا الأفاضل أخذها بعين الاعتبار قضايا ضوابط التكفير وموانعه، ونواقض الإسلام ماهو موضع اتفاق وماهو موضع اختلاف، ومفهوم تطبيق الشريعة،والحكم بما أنزل الله، والذي غدا اليوم كقميص عثمان في التبرير لكل متسلق إلى السطة مستبيح للدماء والأموال، وإعادة النظر في مفهوم الولاء والبراء ولوازمه ومتعلقاته،وإزالة كل ماعلق بهذا المفهوم من زيادات وإضافات دعت إليها ربما ظروف سياسية وخصومات مذهبية وظفت فيما بعد سيفاً مصلتاً على كل مخالف، واصبح تلقين التلاميذ والطلبة بها كاللعب بالنار بحيث يمكن أن توظف لإشعال الفتن،والطعن في عقائد الناس والخروج على الحكومات، كما أن علماءنا الأفاضل مطالبون ببيان أن قصر مدلول الحكم بما أنزل الله على المعاملات التجارية أو الحدود والعقوبات المقدرة- دون ما عداها من أوامر الله ونواهيه التي هي مما أنزل الله ومن أحكامه تعالى- سوء فهم لمقاصد شريعة الإسلام وصلاحيتها. فالرحمة بالناس مؤمنهم وكافرهم, ومراعاة أحكام الجوار على صعيد الأشخاص والمجتمعات أو على صعيد العلاقات الدولية, وتحسين صورة المسلمين وتحبيب الإسلام إلى البشرية, كل ذلك هو من الحكم بما أنزل الله الذي يغفله أولئك الذين يريدون أن يحصروه بالعقوبات وقطع الأيدي وجلد الزناة.
إن على علمائنا الأفاضل أن يوضحوا للناس أنه ليس كل نظام أو لائحة أو قانون لا نجده منصوصاً عليه في القرآن والسنة الصحيحة القطعية يكون حكماً بغير ما أنزل الله, وإلا لكانت اجتهادات الفقهاء وأحكام القضاة كفراً وحكماً بغير ما أنزل الله, فإنها مبنية على الاجتهاد, والاجتهاد يصيب ويخطئ, ومع ذلك فالمجتهد من الفقهاء والقضاة يكون مثاباً على خطئه مأجوراً عليه مغفوراً له. فإن الحق عند الله- على أصح أقوال العلماء الأصوليين- واحد في كل مسألة ونازلة وأقضية, وإذا اجتهد المجتهد فلم يصب الحق كان حكمه غير موافق لحكم الله, ولكنه بنى اجتهاده على نصوص الشريعة وحكمها ومقاصدها الشرعية وكلياتها, ولهذا فنحن نسمي محاكمنا محاكم شرعية ونعد فتوى الفقيه وحكم القاضي الملزم حكماً بالشريعة, فالمقصود أن تكون الشريعة هي المرجعية الأساس في التشريع والقضاء. والمجتهد قد يكون قاضياً وعالماً, وقد يكون مجلساً تشريعياً أو محاكم تجارية أو مكاتب محكمة كمكاتب العمال وغيرها التي تتولى الفصل في الخصومات والنزاعات المالية الحقوقية.
وقد يطرأ الخلل والانحراف في أجهزة الدولة التشريعية أو التنفيذية وتظل دولة مسلمة يجتمع فيها الخير والشر والانحراف والاستقامة.وتعظم نسبة الصواب والخطأ بحسب ما طرأ عليها من ذلك، و على هذا كانت غالب أحوال الدولة الإسلامية منذ أربعة عشر قرناً، والواجب على علمائنا إدراك هذا جيداً، وأن لا يجمدوا على النصوص بعيداً عن الواقع ومنطق الممكن. أحسب أن هذه من أهم القضايا التي ينبغي على علمائنا الأفاضل إيضاحها وتجليتها.
ربما أكثر البعض من الحديث حول مصداقية العالم والفقيه ومدى القبول والتأثير في الجماهير، وضرورة توفر هذه الصفة في العالم. ولكننا نعلم أن المصداقية ليست منحة إلهية تولد مع الإنسان ولا تكتسب، وليست معجزة لاتنالها القدرة البشرية!
المصداقية لها شروط موضوعية من الإحساس بمسؤولية الأمانة الملقاة على عاتق الإنسان والبعد عن التزلف، والصدق مع الله ومع من ولاه الله أمرنا،وأداء حق العلم، والجرأة في الحق وأعظم ذلك كله الاعتراف بالأخطاء والبعد عن المكابرة في الحقائق. المصداقية ليست إلا تراكماً من المواقف التي تحسب للعالم والمفكر متى صدق الجميع.
إننا حين نمارس حسَّنا النقدي مع أنفسنا، ونراجع أفكارنا ونصارح ذواتنا بمواطن البلاء، فإننا ندرك أن ثم قوة حية تعتمل فينا وتطمح إلى الخروج والحياة لتزيل قشرة من الأمراض والعلل والأدواء التي تعلو أفكارنا ومفاهيمنا.إننا حينها ننفي تلك القشرة بقدر ماتريد تلك الإرادة الطماحة فينا أن تحيا وتثبت نفسها…فهل نحن فاعلون..؟