منصور إبراهيم النقيدان
صحيفة الوطن السعودية:5/11/2001/20/8/1422هـ
العدد402
كانت اللغة التي تحدث بها زعيم القاعدة أسامة بن لادن -المتهم الرئيسي في أحداث تفجيرات11 سبتمبر في أمريكا في بيانه الأخير الذي بثته قناة الجزيرة أول أمس السبت – أقل حدة من سابقه، فلغة التهديد والفخر بأن الذين كانوا وراء التفجيرات في أمريكا هم “كوكبة من شباب الإسلام “،وتهديدات الناطق الرسمي باسم القاعدة سليمان أبو غيث، بأن (عاصفة الطائرات لن تقف)،وتحذيره لكل المسلمين في أمريكا وأوروبا بأن يتجنبوا السكنى في ناطحات السحاب أو الركوب في الطائرات…. غاب عن ابن لادن وهو يستنكر قتل الأبرياء في أفغانستان، لإشادته بتفجيرات أمريكا التي ذهب ضحيتها آلاف من الأبرياء كان من بينهم قتلى من المسلمين ! أين كان ابن لادن ممن يُدعون بالمجاهدين وهم يدكّون مدينة (كابل) منذ سنوات بالصواريخ المتعددة الفوهات على مدارالساعة؟
.. أين كانت غيرته على الدم الإسلامي وأين كان فهمه لحرمة الإنسان يوم قَتَلَ الأفغان فيما بينهم، وعلى رأس صفوفهم بعض العرب -والذين كان غالبيتهم يتبعون لتنظيمه- يوم قتلوا الآلاف وعشرات الآلاف من الأبرياء والمساكين والعزّل من أبناء أفغانستان التي سَحَقت صواريخهم ومدفعيتهم وطيرانهم أكثر ممن قتل بيد السوفيت وأكثر ممن قتل حتى الآن بالغارات الأمريكية؟
هل غاب عن ابن لادن أن قتل إنسان بريء واحد مسلماً كان أوغير مسلم جريمة كبرى سواء كان في مركز التجارة العالمي،أو كان في كابل،وسواء قام بتلك الجريمة عربي معمم أو مسيحي أمريكي.
يلاحظ المتابع أن جميع تنظيمات الإسلام الحركي تعيش أزمة ثقة مع حكوماتها… -حتى المنخرطة منها في اللعبة السياسية- وخصوصاً إذا أخذنا على وجه الخصوص أدبيات التظيمات الإسلامية المسلحة ً، و التي تعتمد على أفكار سيد قطب (معالم في الطريق،في ظلال القرآن) وتقوم على المفاصلة والعزلة الشعورية عن المجتمعات الجاهلية(الإسلامية)التي-حسب تلك الأدبيات- تنحي شرع الله وتقيم حكم الطاغوت،لهذا تكثر في أدبيات تلك الجماعات عبارات المداهنة، والتولي،والموالاة، والتي يصمون بها كل من يتخذ خطوات ومبادرات سلمية تعتمد على الحوار والتنسيق ووضوح الرؤية والشفافية مع أي سلطة سياسية حاكمة….لهذا تأنف تلك الحركات من أي تقارب أو تنسيق مع حكوماتها..لأنها تقتات على عدائها لها…ومنه تكتسب وجودها وشرعيتها.
قد يكون من المفارقات العجيبة أن تضيق بهؤلاء رقعة مساحتها22مليون كم تقام فيها شعائر الإسلام وينادى فيها بالأذان خمس مرات كل يوم وليلة، لتسعهم بلاد الغرب( المستعمر ) حيث. الإباحية والعلمانية وأرض الصليب!! والذي يرونه سبب كوارثنا وسر بلائنا.
أطلق أسامة بن لادن في بيانه أحكام الكفر على الحكومات والزعماء العرب (الذين يريدون أن يحلوا قضايانا عبر الأمم المتحدة هم منافقون يحاربون الله ورسوله)..(إن الذين يحيلون الأمور إلى الشرعية الدولية كفروا بالله ورسوله)…( زعماء العرب كفروا بما أنزل على محمد)….. لقد تجلى في بيان ابن لادن الأخير فضيحةً كبرى تكشف اهتراء فهم لهذا الدين، وتُعرّي حقيقة الخلط البالغ في الأولويات والمناهج..
فقد ذكر العلماء أن المعاهدات والاتفاقيات التي تعقدها أي دولة إسلامية سواء كانت معاهدات ثنائية أو تحت مظلة الأمم المتحدة منها ما يدخل في نطاق العقود في الشريعة الإسلامية والتي أمر الإسلام بالوفاء بها، وفي قراءة لسيرة الرسول عليه السلام نجد أنه عقد معاهدات مع اليهود وأبرم صلح الحديبية مع قريش وبشروط كانت قاسية على المسلمين كما أنه أرسل في غزوة الأحزاب إلى عيينة ابن حصن ” أرأيت إن جعلت لك ثلث تمر المدينة أترجع بمن معك من غطفان “؟ فأرسل إليه عيينة :إن جعلت لي الشطر فعلت “.
وعلى هذا المنوال سار الخلفاء الراشدون ومن معهم، وبناءً على تلك السوابق نجد أن عقد المعاهدات بين الدول الإسلامية أ وغيرها من الدول سواء كان عبر اتفاقيات الأمم المتحدة، أو عبر اتفاقيات ومعاهدات ثنائية هو أمر أجازته الشريعة إذا لم تكن تلك المعاهدة تتضمن مخالفة لأحد قطعيات وضروريات الشريعة .
ذكر ابن لادن في بيانه أن حكام المسلمين قد ارتكبوا عدداً من نواقض الإسلام العشرة، والتي أجمع عليها علماء المسلمين، بتوليهم لأعداء الله ورسوله من الكفرة والصليبيين ، وبما أن المساحة هنا لاتسع لإطالة الشرح والحديث في هذه القضايا ذات الطابع العلمي، فإنني أحب أن أنبه-وهذه رسالة إلى أهل العلم والفكر والدعاة- إلى أنه من البديهي لدى كل مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرها منه, وأن أعظم ما اضطلع ببيانه هو حقيقة دين الإسلام وشرح فرائضه وما به يكون الإنسان مسلماً وما بسببه يرتد عن الدين ويكون كافراً..
وحينما توضع قاعدة أو يؤصل أصل أو يؤلف كتاب في كفر من أتى بعض المخالفات، أو أقدم على بعض الممارسات، ليلقن أجيال الأمة وتحشى به عقولهم وتربى عليه ناشئتهم ثم تثور الفتن وتسفك الدماء جراء ذلك، وحين البحث عن مستند لها في الشريعة المنزلة لا نجد إلا أثراً ضعيفاً أو حديثاً محتملا أو أية مؤولة ورأياً مهجوراً لعالم خالفه من هو في مرتبته أو أعلم منه، ولم تكن حكاية الإجماع إلا تهويلاً وإرهاباً لاحقيقة وراءه، فذلك أمر يقتضي من العارفين بالشريعة مراجعة عامة وإعادة نظر في كل ما له مساس بهذه القضايا ذات الحساسية الشديدة…
وما أكثر ما نردده من أقوال ورثناها ربما عن مشايخنا، وعثرنا عليها في الكتب غافلين عن خطرها ونتائجها الفتاكة.
لقد نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في مكة عن مقاتلة المشركين واستعمال العنف معهم لكف عدوانهم وأذاهم, بل أمرهم بكف أيديهم والصبر ومقابلة الإساءة بالإحسان, والجهل بالإعراض.
كل ذلك رحمة بالفئة المؤمنة من أن تشوه دعوتهم وتلوث سمعتهم بين أحياء العرب بأنهم فرقوا جماعتهم وقطعوا أرحامهم وأثاروا الفتن ودنسوا مهابة البيت الحرام، الأمر الذي خشيه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في المدينة إن هو قتل أحداً من المنافقين الذين كان يحتفظ بأسماء البعض منهم ولم يعلنها بين أصحابه. وكان يسمع الأذى منهم ويعاملهم معاملة آحاد المسلمين, ولم يقتل منهم أحداً لاعتبارات كثيرة سياسية واجتماعية ودينية، منها ما صرح به الرسول لأصحابه :”حتى لا يقال أن محمداً يقتل أصحابه”.
وهذا هو الفقه الحقيقي وهو أن تعلم خير الخيرين وشر الشرين وتوازن بين المصالح والمفاسد ومن توافرت فيه هذه الملكة كان بحق فقيه النفس.
صحيح أن الحاجة إلى فهم واع للشريعة ومقاصدها والشعور بذلك غالباً ما يكون مصاحباً للتحولات الكبرى في العالم والتحديات الحضارية من خارج، وبضعف الإبداع وفقده من الداخل، ولكن العقلية المثالية الطوباوية التي تريد أن تطوع الواقع وترتفع به إلى مستوى معاييرها المثالية، سرعان ما تكتشف أن الواقع عصيٌ على التطويع ويتأبى على التغيير، فتنخرط في نزاع جدي معه لتكتشف أن ما يجب فعله هو تغيير العالم بأسره ونظام العالم بمجمله لتستشعر ضروب اليأس حيال هذه المهمة المستحيلة.
“حان الوقت لنهبط بتلك المعايير إلى أرض الواقع وننزلها من عليائها هبوطاً يكون فعالاً وإيجابياً إلى مستوى الواقع المعاش للأمة بحيث يعاد للنص قدرته الخلاقة على الحياة والحركة والفعالية، بدلاً من أن تكون مجموعة من المعايير الساكنة والأفكار العامة التي تفتقر إلى الحياة والحركة، بل وإلى الوجود ذاته.فضلاً عن أن تكون سبباً في دمارنا والقضاء على وجودنا”.