منصور النقيدان
نشر في صحيفة الوطن السعودية بتاريخ 25/2/2002 العدد514
الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حديث عن واحدة من تلك القيم التي صنعت الحقبة التاريخية المجيدة لحضارتنا الإسلامية ولقد كانت إشادة القرآن الكريم بأن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس إعلانا للبشرية بأن هذه الأمة هي ضمير الإنسانية الحي متى ما صلح استقام الكون وإذا ما سرى إليه الانحراف وتخلى عن وظيفته اختل النظام وسادت الجاهلية.
إلا أن ما تراكم عبر التاريخ على جوهر القيم من جهة واختلاف الناس بنزعاتهم المذهبية وانتماءاتهم وطريقة تفاعلهم مع القيم من جهة أخرى كان حائلا دون التفاعل الإيجابي ومساهما في ضمور كثير من القيم على صعيد المفهوم والممارسة. وإذا كان صلاح الدين مرهونا بصلاح الدنيا فإن وظيفة الحسبة لا تخرج عن هذا المفهوم. فكان من وظيفة رجل الحسبة في عصور المسلمين الزاهرة مهام دينية محضة وأخرى مدنية, فالاحتساب على شرب الخمور ومظاهر العري والسلوكيات الخاطئة لا ينفك عن كشف الغش التجاري وتزوير النقود وإزالة ما يعيق طريق الناس ومراعاة نظام البناء والرفق بالحيوان, مما يدلنا على مدى الرقي الحضاري في فهم الدين الذي لا يستثني حتى رجل الأمن من وظيفة الحسبة.
غير أن ما تلا ذلك من قصر مفهوم الحسبة على إنكار بعض مظاهر الزي واللباس لدى الرجل والمرأة وبعض السلوكيات المترتبة عن اجتماع واختلاط كل منهما بالآخر ناتج عن التصور المشوه والمغلوط لحقيقة الإيمان وماهيته وقصره على الظاهر دون الباطن وحصره في نطاق ضيق أثمر علمنة في التدين، من مظاهرها ذلك التفريق المصطنع الذي يوضع البعض في تكريسه بين الداعية والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر،حتى آل الأمر إلى أن تكون وظيفة الحسبة مرتبطة في أذهان الكثيرين بالغلظة والرهبة والتسلط والتدخل في خصوصيات الآخرين.
وقد كان لعدم الاتفاق على تحديد مفهوم المنكر ومايعد منكراً شرعاً بالنصوص الثابتة وما أجمع عليه علماء المسلمين ثم عدم التفريق من قبل رجل الحسبة وقلة دراية معظم أعضاء الهيئة فيما اختلف العلماء فيه ولاينكر على فاعله، وبين ما اتفقوا على تحريمه… كل ذلك كان سبباً في ضبابية هذا المفهوم ومن ثم اختلاف نظرة المجتمع والمحتسب إلى الفعل نفسه بحكم المدارس الفقهية أوفتاوى العلماء المتبعة في مجتمعه….
الحاجة اليوم ماسة إلى اجتهاد جماعي يقنن للمخالفات والمنكرات ويضع لوائح تحدد لرجل الحسبة مهامه وتؤطر مجال عمله. يكون نظاما عاما وقانونا سائدا يضع في الاعتبار تلك الفسيفساء من المذاهب والتنوع الثقافي والعرقي والانتماء الإقليمي الذي يشكل سدى المجتمع ولحمته ومنه تتشكل ألوان طيفه. ولا يمكن أن يترك لفرد أو أفراد من أبناء مجتمع هو مزيج من تلك الألوان أن يمارس وظيفة الحسبة حسب ما يعتقده ونشأ عليه, وذلك حتما سيؤدي إلى الصراع والتناقض والقمع اللامبرر في ما من شأنه أن يكون قانونا سائدا للجميع, وليس ثمة أحد أولى من غيره في أن تراعى مفاهيمه وثقافته وأعرافه في مفهوم الإسلام.
لقد عالج الإسلام داء المعصية بنظرة متكاملة ابتداء من هم العبد بالمعصية إلى وقوعها وما يترتب عليها من جزاء, ولكن التعاطي المبتسر والانتقائية الجوفاء كانت من العوامل البارزة في تشوه الشخصية والنفسية المسلمة على مستوى الأفراد والمجتمعات. وحين يكون التشدد والمنع وجلد الذات قيمة تطلب لذاتها ويعلى من شأنها فإن الشفاء يكون حينئذ عزيز المنال.
إن قصر مفهوم الحسبة على قمع مظاهر المخالفات والحيلولة دون إعلانها والمجاهرة بها بعيدا عن معالجة جذورها والمنابع التي أثمرتها ودراسة خلفيتها والعوامل النفسية والاجتماعية التي ولدت تلك المظاهر وأبرزت تلك الممارسات, قد أدى بمجتمعنا خاصة إلى داء الازدواجية والنفاق والفصل بين الظاهر والباطن والسر والعلن…وحين لا يتاح للإنسان أن يعيش كما هو فسيعيش حياته مزدوجاً…. كل ذلك أورث تركيبة اجتماعية غير متجانسة, وإن توحدت في الشكل, وانعداما للثقة بالذات وتميزا أجوف يصل إلى حد العنصرية والكثير من الظواهر السلبية والسيئة في جسم الأمة على مختلف المستويات.
يعمد رجال الحسبة-على حرصهم الشديد على السنة- إلى طريقة يعتبرها بعض العلماء بدعة (كالتنبيه والمناداة إلى الصلاة بعد الأذان.والذي اعتبره ابن تيمية بدعة) في الوقت الذي قد ينكر بعض رجال الحسبة في مسألة لم يقل بها إلا عالم واحد أو اثنان حيث تهمل اجتهادات العلماء الآخرين والأقوال الأخرى داخل المذهب نفسه، ً وفي الوقت الذي يستدعي رجال الحسبة في منطقة ما من لايصلي في المسجد ويؤخذ عليه التعهد.- مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه شيء ألبتة يشابه هذا التصرف-لانجد رجال الحسبة في مناطق أخرى ينهجون هذه الطريقة،مما أوقع الناس في الحرج والإحساس بالتضييق والتشديد عليهم والتناقض بين مايسمعونه من المشايخ- على مستوى التنظير- في أنه لا إنكار في مسائل الخلاف وبين ممارسات رجال الهيئة الذين يعتمدون على فتاوى أولئك المشايخ أنفسهم الذين يخالفون في الجانب التطبيقي ماقرروه تنظيراً!!.وأوقع المحتسب من جهة أخرى في كثير من المواقف الميدانية المحرجة حينما يعمد بعضهم إلى الإنكار على امرأة سافرة الوجه فتخرج له صورة من تعميم ينص على عدم الإنكار على غير السعودية إذا سفرت عن وجهها ويدعو إلى التلطف مع المقيمين في الإنكار!لاحظ أن الإنكار على السعودية فقط.!
ومع التغير الملحوظ في المجتمع والانفتاح الذي أورثته وسائل الإعلام والإطلال على اجتهادات علماء وفقهاء لهم اعتبارهم وثقلهم في العالم الإسلامي أصبح البعض يحس بالتململ من بعض الآراء والاجتهادات المحلية حتى غدا بعض رجال الحسبة يحسون بالحرج الشديد والإنفصام بين ما يؤمنون به وبين عملهم وممارساتهم الميدانية……نماذج عديدة ربما أصبحت قريباً ظاهرة لايمكن تجاهلها وبذرة تحتاج إلى من يرعاها ويرأمها ويوجهها.ولكن مع الأسف الشديد أن هؤلاء الذين يقاسون في ميدان عملهم في الحسبة لم يجدوا من أهل العلم أو من المسؤولين على هذا الجهاز من يشاركهم هذا الهم ويفتح لهم صدره فالتزموا التحفظ والصمت وواصلوا العمل بممارسات يمقتونها من أعماقهم ليعيشوا عذاباً وتأنيب ضمير.
وإذا كان بعض رجال الحسبة يعتبرون بكل اغتباط أن إنجازاتهم في محاربة مظاهر الفساد ليست إلا تجاوزات للوائح والأنظمة التي تقيدهم عن العمل -حسب مايرون- فإن منها ماهو تجاوز حتى لحدود الله في عباده حينما يرغم الشخص على الكذب على نفسه ليسلم أحد أعضاء الهيئة أو المركز من المساءلة والعقوبة المترتبة على تلك التجاوزات….
من المسؤول عن الفكرة السيئة التي يحملها كثير من أبناء الوطن ومن المقيمين خاصة عن الحسبة ورجال الهيئة؟..ألا يستحق هذا الجهاز إعادة نظر في مفهوم المنكر وتحديد المنكرات وتقنينها وإضفاء روح جديدة في الأسلوب والطريقة التي يتعامل رجال الهيئة بها مع الناس،وإخضاع رجال الحسبة- إذا عسر استبدالهم بدماء جديدة- لدورات علمية واجتماعية ترفع من مستواهم وكفاءتهم وتؤنسنهم قليلاً؟ لمَ يتفادى المسؤولون عن هذا الجهاز الهام والحساس المشاركة في جنس هذه القضايا حينما تطرح على صفحات الصحف ووسائل الإعلام؟..ولمَ نلاحظ أن أكثر من يشاركون من أعضاء الهيئة يصرون على عدم ذكر أسمائهم؟ ألايدلنا هذا على أن هذا الجهاز يعيش أزمة وهروبا ًوتعامياً عن الحقيقة؟…. أليس من الخير لجهاز الحسبة- في ظل الانفتاح الراهن والتغيرات الكبرى التي طرأت على المجتمع وفي ظل التنوع الثقافي والتعدد المذهبي والطائفي-أن يوجد من العاملين في هذا الجهاز أناسا ذوي رؤية واعية منفتحة تدرك مدى التحول الذي يعيشه مجتمعنا في ثقافته ومصادر معرفته وفي مرجعياته العلمية والمذهبية؟… يذكر أن بدوياً وفد على بريدة وكان لقومه الشيخ وإمام الصلاة والمطوع فحضر درساً للشيخ عبدالله بن حميد رئيس القضاة حينها فلما انتهى الشيخ من الدرس قبل مطوع البدو رأسه وقال:لم أعلم أن هناك من هو أعلم مني حتى رأيتك وحضرت درسك!! .
إن الدارس لمبحث الحسبة في كتب الفقه يلاحظ جليا ما ناله من إهمال وما اعتراه من جمود على قوالب ثابتة من دون تطوير في مفهومها وعلى كثرة ما كتب فإنك لا تكاد تجد في تلك المباحث ضابطا محددا يفصل بين ما يحق لآحاد الناس ممارسته من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وما يخص موظف الحسبة حتى بلغ الأمر ببعض الغيورين ممن لا يملكون سلطة قضائية أو تنفيذية القيام بإيقاع الحدود والعقوبات مما أفضى إلى كثير من الفتن والفوضى وتسبب في تشويه صورة المتدينين. أضف إلى ذلك ما ذهب إليه بعضهم من أنه يجوز لمن رأى أنه من أهل الاجتهاد أن يحمل الناس على مذهبه في مسائل الاجتهاد والخلاف.
إذا “جاز في المسائل التي تختص بقضايا فردية أن يأخذ كل فرد بأي قول أو اجتهاد شاء, فإن مثل هذا لا يمكن في مثل هذه المسائل التي لها مساس باجتماع الناس وتنظيم علاقاتهم وتقييد حرياتهم،فمفهوم الحسبة اليوم يعاني من أزمة مردها إلى أن ثمة واقعاً مغايراً ومتغيراً صفته الحراك والتطور يراد له أن يصلح ويمارس عليه مفاهيم عبر قوالب متجمدة, , والجمود على تلك القوالب والمقولات التي صاغها المتقدمون لا يمكن بحال أن يكون مرجعا لصياغة نظريات جديدة للحسبة اليوم. نعم يمكن البناء على ما يصلح البناء عليه منها متى ما ناسب الواقع وقارب روح الشرع من دون أن ترفع إلى مستوى الوحي المنزل.