تستقبل المملكة العربية السعودية يومها الوطني السابع والثمانين، في ظروف لم يسبق لها أن مرت بمثلها، تحديات اقتصادية وسياسية، وأمنية داخلية وخارجية، وطوق من الجوار غير المستقر في أكثر من دولة، ومزاج سياسي دولي غير ودود، وقوى عظمى في الشرق والغرب لا تجد منها المملكة التعاون أو التفهم للمخاطر والتحديات التي تواجهها والمخططات التي تستهدف أمنها الداخلي وحدودها.
في حومة هذا المناخ عاشت المملكة منذ بداية 2015 تحولات عميقة في السلطة وفي تراتبية الحكم، بما لم يكن لأكثر المتنبئين أن يتخيله. دماء جديدة في الحكم، وتطلع لا يني للمستقبل، وإرادة توافرت معها الإمكانات لإحداث إصلاحات جذرية عميقة. إنها بشائر الدولة السعودية الرابعة.
مع وصول الملك سلمان إلى الحكم كان بعض من «الإخوان المسلمين» السعوديين وسحابة من المتعاطفين والمتأثرين بهم، وحتى فريق من المتابعين والخبراء، يتوقعون أن يكون هذا الملك الذي تمتع لعقود بعلاقة خاصة مع المشايخ والمطاوعة وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر تعاطفاً مع وصوله إلى الحكم مع الحركية الإسلامية، إخونجيتها وسروريتها، وأن تكون مؤسسات الدولة الأمنية والعدلية أكثر تغاضياً إزاء التشدد الوهابي/ السلفي الذي جثم على مفاصل التربية والتعليم والشؤون الدينية والأنشطة الاجتماعية ردحاً من الزمن.
غير أن السيرة الذاتية لبيت الحكم السعودي ومنذ قيام الدولة السعودية الثانية، التي فهمت جيداً الدرس المؤلم والمأساوي لأسباب سقوط حكمهم في الدولة الأولى، تؤكد أن لديهم حساً رفيعاً لإدراك المخاطر التي تحيط بهم واستشعاراً مكتسباً أشبه بالغريزي نتاج ما يزيد عن 270 عاماً من قيادة المجتمعات وتأسيس الدول. لقد أكد الملك سلمان أنه باعتلائه العرش يوم 23 من يناير 2015 سوف يكون مؤتمناً لحكم بلد كبير قوي وراسخ في بؤرة متوترة، وتحديات جسام ومنافسين إقليميين. وكما هي سنة الله في آل سعود جرياً على الناموس أكد سلمان أن دوره الكبير ملكاً ليس كما كان أميراً حرص -طوال أكثر من أربعين عاماً أميراً يحكم الرياض- على إحداث توازن دقيق يضبط إيقاع العلاقة الشائكة والمعقدة بين تغول رجال الدين وبين مجتمع صحي سالم من آفات التطرف.
بعض من المتفائلين الحركيين في الأسابيع الأولى من العهد الجديد كانوا يرددون أن دولة سعودية جديدة تولد، ولا علاقة لها بحكم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، الذي كان غير ممالئ ولا مداهن لشيوخ ودعاة وحركيين تغلغلوا عميقاً في مؤسسات الدولة بما فيها الأمنية والقضائية، ونشطوا تقريباً منذ العام 2004 في التشويه المتعمد والمنظم لإصلاحاته، والتشكيك بأمانة ووطنية فريقه الذي وثق به واستأمنه على رفاهية شعبه وتأهيله للمستقبل، وإثارة الشكوك بصوابية وسلامة إصلاحاته وانسجامها مع أسس الحكم. ولكن التطورات اللاحقة التي كشفتها حرب اليمن «عاصفة الحزم»، وتلاها بعد ذلك قانون «جاستا»، وعوامل أخرى سرعت بمرحلة جديدة من التحولات لم نكن نحلم بها.
يمكن الجزم أنه لولا الأمير محمد بن سلمان الذي كان ولياً لولي العهد ثم ولياً للعهد لما التأم شمل مؤسسات الدولة في انسجام وتناغم افتقدته منذ 1975. دولة كانت تقاد بثلاثة رؤوس لا يمكنها أن تنهض ولا أن تسير قدماً. إذاً تكفَّل القدر متضافراً مع العبقرية تجللهما عين الرحمن، بإفساح الطريق بأعظم إصلاحات تاريخية تشهدها البلاد، حيث توحد البيت والقرار.
هذا الوعي الاستثنائي الذكي الذي يتمتع به أمير سعودي في الثالثة والثلاثين من عمره، من الطبيعي أنه سوف يسبب الإرهاق لفريقه الذي يقود الحكومة، للوفاء بتطلعات الأمير، الذي لا يعرف الراحة، وليس غريباً أنه سيثبت على الدوام تفوقه على تنبؤات أكثر المنجمين، مخيباً ظنون أكثر المتشائمين، محلقاً في الذرى فوق توقعات المحللين.