منصورإبراهيم النقيدان
نشر في جريدة إيلاف الإليكترونية
الأربعاء 13/نوفمبر/2002
في 23 أكتوبر الماضي نشرت صحيفة الحياة اللندنية رسالة جوابية لعدد من المثقفين والمفكرين الأمريكيين رداً على بيان أصدره عدد من المشايخ السعوديين في 29/4/2002 عنوانه” على أي أساس نتعايش”، والذي كان هو الآخر تعقيباً على بيان سابق لأصحاب الرسالة الجوابية أنفسهم عنوانه” على أي أساس نقاتل”. وقد كان البيان السعودي مثاراً لسجال محلي استمر شهرين، في قضية تعتبر سابقة في تاريخ الصحافة السعودية .وتعرض الموقعون على البيان السعودي لهجمتين شرستين، أخطرهما وأكثرهما تدميراً كانت من قبل التيار السلفي الذي اعتبر البيان انشقاقاً وخيانة للأسس الفكرية والمذهبية التي ينتمي إليها كلا الطرفين. وكانت الأخرى من قبل شريحتين: الأولى الإسلاميون الإصلاحيون الذين يمثلون لوناً جديداً بدأ في التشكل في السنوات الخمس الأخيرة وكان من المنتمين إليه بعض ضحايا القمع الفكري الذي مارسه ضدهم مريدو وتلاميذ أشهر الموقعين على البيان “المشايخي” ، والشريحة الثانية هم من تم تصنيفهم على أنهم “الليبراليون” السعوديون، ومنهم خصوم تاريخيون للإسلام الحركي السعودي “الصحوي”.
قبل أربع سنوات جمعني مجلس خاص بأحد المشايخ، وكان حديث طويل دارحول” كيف يثق الناس بشيخ ،أو قائد روحي ،يبدل مبادئه ويغير من آرائه، ويراجع أفكاره كل فترة، في بيئة اجتماعية وثقافة دينية سكونية تعلي من قيمة الديمومة والثبات المطلق، و تعتبر طنين الذباب منعطفاً تاريخياً، وثورة في التفكير، والتغيير في الزي أو اللباس، وقلة عدد شعرات الوجه وكثافتها، رمزاً لنقلة في المبادئ،وزلزال في القيم.
قلت له ما معناه إن هذا يعتمد على معرفة حقيقة ماتسميه مباديء أو قيماً، وهل هي كذلك أم أنها لاتعدو أن تكون ركاماً من سلسلة من الإضافات والاجتهادات المذهبية والمحلية التي غدت كالجبال حتى ناء بحملها أهلها، كما أن هذا عائد لطريقة فهمك للدين وكيف تلقنه الجمهور وتحقن به الأتباع ، وطريقة تعاملهم مع المخالف والآخر.فإذا كنت مساهماً في تكريس هذا الفهم للدين و كنت واحداً ممن شاركوا في خلق هذا الوحش، فما الغريب إذا جاءك يوم كيوم فرانكشتاين؟.
كان الشيخ يحمل بيده كتاب”الطريق إلى الحرية للزعيم الأفريقي “نيلسون مانديلا”، ولفرط إعجابه به كان قدصور مواضع من الكتاب وجمعها في مذكرة . كنت أثناء الحديث معه حريصاً أن أعرف حقيقة الأمر، فالشيخ قد أفرج عنه قريباً بعد إيقاف لأربع سنوات، والغالبية من محبيه لايعرفون أي شخص هو الآن؟ هل تراجع عن بعض أفكاره؟ هل تخلى عن “مبادئه” التي أخذ سنوات طويلة يكرسها في دروسه ومحاضراته؟ كان لديه خليط من أفكار تنم عن اعتدال قياساً بما مضى،ولكنه فضل أن يترك للزمن والمستقبل مهمة إقناع الأتباع وفق الظروف والمستجدات. “ماذنب فتىً في الثامنة عشرة، ساهمتَ في تشكيل فكره ،وصياغة قناعاته يراك بعد سنوات وقد تخليتَ عن تلك المباديء”؟حسب قوله.
لم تكن مخاوف الشيخ تنبع من فراغ ، فبعد أربع سنوات على هذا الحديث بعد توقيع الشيخ على البيان السعودي، جاء من يذكر الشيخ بالكفار الذين ثبتوا على مبادئهم، مستشهداً بنيلسون مانديلا نفسه…..حيث يقول”ومن العجيب أن من الكفار من سجن لأجل مبادئه ما يقرب من الثلاثين عاماً، فلم يتزحزح – على كفره – عنها حتى خرج ، بينما تجد من (الدعاة) من سجن بضع سنين فانقلب رأساً على عقب …هذا وهم في (سجن) يأتيهم رزقهم فيه بكرة وعشياً ، فكيف لو كانوا محاصرين في (كهوف أفغانستان) أو (جبال كشمير) أو (غابات الشيشان) أو (مخيمات جنين) ؟!! ماذا تراهم سيصنعون ؟”.
الحقيقة أن الشيخ لم يتزحزح عن الأسس نفسها التي تشكل تفكيره الديني وتؤطر نظرته، ولم يكن ذلك انقلاباً أو خيانة للمباديء التي كان ينادي بها .إنما جدت قضايا على الساحة استوجبت التطورات الحديث عنها.لم يكن هناك تطور يذكر ماعدا بعض العبارات الجديدة والمحسنات اللفظية. وتجنبه الحديث عن مواضيع قلمت مخالبه عن أن تطالها. ولكنها الدائرة الجهنمية التي يصطلي بنارها كل من قبل بها، أووظفها يوماًضد خصومه.
في السنوات الخمس الأخيرة تشكل محلياً تيار ديني إصلاحي ، بدأ هذا اللون الجديد في التخلق أثناء مرحلة فراغ عاشتها الساحة من القيادات الحركية الصحوية”المعارضة” التي كانت تقضي فترة إيقاف في السجون قاربت أربع سنوات. وقد كان غياب القيادات عن الساحة فترة انفراج سمحت بشيء من التنفس وفك الاختناق لدى مجموعة كبيرة من شرائح المجتمع، وهيأت لهذا الجنين أن ينمو تدريجيا، ففي الريف الغربي لبريدة، وعلى كورنيش جدة، وفي مقاهي الإنترنت في الرياض، وفوق رمال الثمامة، انطلقت الشرارة الأولى.
لم تكن تتجاوز أفكار هذه المجموعة -في البدء- بعض الاجتهادات غير المشهورة للفقيه الحنبلي ابن تيمية ، وبعض آراء المذاهب الفقهية الأخرى، وهي قياساً على فتاوى المؤسسة الدينية الرسمية، والمدرسة الفقهية المحلية، تمثل انفتاحاً وتسامحاً، مضافاً إليها بعض أفكار رواد النهضة العربية المعاصرة،إلى خليط من فتاوى القرضاوي،وقراءة لأفكار الجابري ، ومفكرين مغاربة آخرين، أفكار وكتابات هنا وهناك بدأت في ساحات الحوار الإسلامية على الإنترنت لتنتقل بعد ذلك إلى صحف ومجلات أفسحت المجال نسبياً أمام هذا النفس الجديد الذي توقع له البعض أن يكون نواة تيار ديني جديد ومدرسة فقهية مرنة، إذا ماوضعنا في الاعتبار أن هذه المجموعة قد تلقت العلوم الشرعية في المساجد وعلى يدكبار علماء الدين المحليين.
فكيف تم التعامل معهم؟ وكيف كانت نظرة قيادات الصحوة إليهم؟وكيف كانت ردة فعل أشهر الموقعين على بيان المثقفين السعوديين” على أي أساس نتعايش”؟.الذين كانت بعض أفكار بيانهم أكثر تقدمية وحداثة من بعض طروحات الإصلاحيين؟.
كان الإقصاء التام، والنفي، والبيانات، وأرتال من المحاضرات، التي تناولت ظاهرة من سموهم بـ”العصرانيين””العقلانيين” الذين تأثروا بالمعتزلة ونكصوا عن طريق الحق. وحكموا عقولهم في النصوص ، وتجاهلوا سلطة السلف ، وتحذر من دعاة الرذيلة الذين يريدون من المرأة أن تكشف وجهها،وتستخرج بطاقة هوية لها، ويريدون أن يجعلوا أهل السنة والشيعة إخوة بعضهم أولياء بعض.حتى بلغ الحال أن يساهم تلاميذ آباء البيان المشايخي بالتضييق على أرزاق البعض منهم بمباركة صامتة من المشايخ، ولم نسمع يوماً من الأيام كلمة حق، تستنكر ذلك الظلم والحيف والإجحاف الذي بلغ إلى حد تكفير بعضهم….. هذه مقدمة لابد من ذكرها.
البيان الذي أصدره السعوديون كان في الأساس “فكرة ، وصياغة” اقتراحاً قدمه بعض رموز الإصلاحيين في السعودية، أبرزهم القاضي السابق والمستشار الشيخ عبدالعزيز محمد القاسم، والذي استضافته قناة الجزيرة لاحقاً في برنامج أكثر من رأي عقب صدور البيان، واستضافته مرة أخرى بعد صدور الرسالة الجوابية للمثقفين الأمريكان في برنامج “من واشنطن”.
صدر البيان مذيلاً بتوقيع العشرات، وكان مما أثار استغراب البعض اختفاء أسماء كان من المفترض أن توقع على البيان، فالبيان موقع باسم المثقفين السعوديين، وبما أن البيان يدعو إلى الحوارمع المثقفين الأمريكيين” من النصارى،واليهود” ، ويحوي أفكاراً أكثر حداثة وتقدمية من بعض أطروحات أولئك المقصَين، فمن الطبيعي أن تضاف أسماؤهم، كما استبعدت من البيان أسماء اعتبرت خصوماً تاريخية لقيادات الإسلام الصحوي.
ومع أن أكثر من اسم شارك في التوقيع على البيان باعتبارهم يشكلون أكثر من توجه فكري – على الأقل على مستوى التصنيف المحلي- إلا أنه تم اعتباره بيان “مشايخ الصحوة”، وجُيِّرتْ مكاسبه الآنية لهم، والبريق الذي أحاط بصدور البيان لفترة كان حكراً عليهم.
هل حقاً أن المشايخ الموقعين يؤمنون بالحوار إلى مستوى أن يحاوروا مثقفي ومفكري الأمريكان ،وعلى طاولة واحدة إن اقتضى الأمر؟ ومنهم من يؤمن بأن مناقشة ومحاورة المسلم المبتدع قد تكون سبباً في تمريرشبهات تستقر في دماغ المسلم يصعب اجتثاثها واقتلاعها فتكون فتنة له عن دينه”ناصر العقل”؟ وهل ماذكروه في البيان صدر عن قناعة راسخة وتغير في الرؤية،وخصوصاً أن منهم من كان يعتبر بعض المفكرين الإسلاميين كفهمي هويدي، وخالص جلبي،والترابي من أعلام الزندقة”سفر الحوالي”؟ ومنهم من نشر تقريراً قبل سنوات عن الخطر الشيعي الرافضي في السعودية حتى بلغ الحال أن يحوي التقرير معلومات دقيقة على شاكلة التقارير المخابراتية، عن نسبتهم في المؤسسات التعليمية، وكم يملكون من محلات تجارية”ناصر العمر”؟. هل في هذه المفارقات مايمكننا اعتباره تناقضا صارخاًً؟
البعض رأى أن إقدام المشايخ على تلك الخطوة ليس إلا مثالاً لمايسمى في الموروث الشعبي بـ”ذهانة الفلاليح” أي ذكاء الفلاح البسيط، وأنها “إذا مانفعت ماضرت”. وآخرون رأوا أن تلك الخطوة ليست إلامجرد” تشخيص”ومباهاة، كتلك العمائم الإيرانية التي التقى بها الفيلسوف الألماني هابرماس أثناء زيارته لإيران، والتي كانت تخوض معه في دقائق فلسفة كانت، وفوكومثَّل بعضها تجاوزاً ونقداً، ولكن تلك العمائم أنفسها تصرح أنها لن تتجاوز الأفكار الخمينية!. أو أن الأمر لم يكن يعدو مكسبا سياسياً اعتدناه في السابق سنوات التصعيد .
قبل صدور البيان السعودي استبعدت مجموعة من الأسماء، التي سيعتبر وجودها في قائمة الموقعين تقارباً مع طروحاتها إن لم تعتبر هي الأيدي الخفية التي خطت البيان وصاغت أفكاره، وتم التأكيد على إضافة أسماء مهتمة بالشأن العام اصُطلح على تسميتهم بـ”الليبراليين” لإضفاء شيء من الهالة والبريق، وإظهار الأمر على أنه اتفاق والتحام وطني أمام القضايا الكبرى، وروعي في تلك الأسماء أن تكون من شتى مناطق السعودية، ومن الساحلين الشرقي والغربي، وتم إقناع تلك الأسماء بذلك الوصف، لتظهر المفاجأة على قناة الجزيرة حين وجه مقدم البرنامج إلى أحد ضيفيه-يمثل مثقفي الحجاز- تهمة الليبرالية ،فأصر أن ليبراليته لايتجاوز سقفها فتاوى هيئة كبار العلماء!. كما استبعدت أسماء كانت تعتبر خصوماً تاريخية لقيادات الصحوة أوائل التسعينات، وأسماء أخرى صنفت على أنها ذات توجهات معادية لثوابت الأمة منتصف الثمانينات،كانت ساعة صدور البيان السعودي لاتخفي تعاطفها مع التيار الإسلامي، ولكن اللعنة ظلت تطاردهم. وخرج البيان بأسماء شكلت لوحة سوريالية لم تتمالك نفسها أكثر من أسبوعين، حتى تهاوت شظاياها وانفرط نظامها، لينشغل المشايخ بمعارك داخلية مع أكثر من جناح داخل تلك التوليفة الأصولية.
تم نشر البيان”على أي أساس نتعايش” في موقع”الإسلام اليوم” على الإنترنت، وأتيح المجال للتعليق عليه ، ليمتص غضب بعض المعارضين للفكرة من أساسها وهم الذين اعتبروا البيان تملقاً لأعداء الإسلام ومداهنة في الدين.وواجه البيان وموقعوه معركة شرسة من قبل طرفين : من مشايخ التيار الديني الأكثر سلفية الذين اعتبروا البيان انتكاسة وزيغاً،يجب التوبة منه. ومعركة أخرى من أشخاص يمثلون الفئتين اللتين تم استبعادهما،ودخل على الخط آخرون ، لتشهد الصحافة السعودية أول حوار بمثل هذه المستوى والذي دام مايقارب شهرين مثل واحدة من أكثر القضايا أهمية وثراءً في تاريخ الصحافة السعودية.
مع الضغوط التي واجهها الموقعون تراجع عدد منهم وأصدروا بيانات فردية بهذا الخصوص، بينما اكتفى آخرون بشرح الطريقة التي تم فيها استدراجهم ، وكيف تم خداعهم حيث أضيفت أسماؤهم من دون أن يروا البيان أو يقرؤوه. بينما تولى آخرون من موقعي البيان على الجبهة الأخرى مهمة إقناع الغاضبين ممن استبعدت أسماؤهم بأنها سقطت سهواً، مع قطع الوعود لهم أن تضاف أسماؤهم إلى بيان “المليون” الذي كان موقع” الإسلام اليوم” يعتزم إصداره. من الطرائف أن أحدهم قال لي-ساخراً- مادام أن عدد الموقعين سيبلغ المليون فقطعاً سأكون منهم ، كما أن اسمي مع هذا العدد الهائل من الأسماء لن يلحظه أحد، وهنا لن يقع أي إحراج .
تم إصدار بيان من قبل الشخصيات الثلاث التي مثلت القيادات التاريخية للصحوة المحلية، تضمن البيان تراجعاً عن أهم الأفكار الجوهرية في البيان الأم وتم تسميته “توضيح” تلطيفاً.وقد أكد فيه المشايخ وصف بيان الأمريكان” على أي أساس نقاتل” بأنه” اعتداءُُ على الحق ، وضلالٌ عن السبيل “، وقد نشره موقع “الإسلام اليوم” مذيلاً بتزكية أحد أساتذة العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية د.عبد الرحمن البراك، ولم يفسح المجال أمام التعليق أو التعقيب ،وبعد أيام قليلة تم إزالة الموضوعين من الموقع ،وأغلق الستار وخيم الصمت.
ومع أن أغلب الموقعين لم يروا أي حاجة أو ضرورة لكتابة ” توضيح”، حيث إن ما تضمنه البيان من أفكار قد مثل صورة مشرفة للإسلام المعتدل، فإن منهم من لم يكن لديه أي معرفة بحقيقة ما أعقب صدور البيان من ملاحم وتراجعات جماعية، فالأمر قد اختزل بمعركة داخلية اكتست طابعاً إقليمياً نجدياً، ولم يكن على البقية في الساحلين الشرقي والغربي إلا القيام بدور المتفرج وتلقف آخر التطورات من مواقع الحوار على الإنترنت.واتضح فيما بعد أن رهان بعض الإصلاحيين ، في إقناع بعض الأسماء بالتوقيع، ليكتسب البيان زخماً،ورواجاً، وقبولاً داخلياً، كان رهاناً خاسراً،…حيث عادت أغاني العرس رجع نواحِ.
في المقابل لم يلقِ فرسان الضفة الأخرى أسلحتهم بل استمروا بإصدار البيانات والدراسات المطولة عن مدى الانحراف، والزيغ الذي وقع به المشايخ الموقعون ، كما والوا نشر الأخبار شبه اليومية -في مواقعهم على الإنترنت-عن تراجع جديد لبعض الموقعين، مصحوباً بتصريح مقتضب من كل واحد منهم يشرح فيه كيفية استدراجه إن كان من المستدرجين ، أو عن رجوعه إلى فسطاط أهل الحق بعد أن غشت عيناه الضلالة. والغريب في الأمر أن الأفكار الأساسية للبيان السعودي تنطلق من قيم الإسلام ومبادئه، ولم نر حتى الآن بعد مضي أكثر من أربعة شهور، أي دراسة أو بحث مفصل من مشايخ البيان-الذين لم يتراجعوا- تبين شرعية تلك الأفكار التي حواها البيان أمام طوفان الردود والدراسات التي أصدرها معارضوهم، فهل هو عجز وقصور علمي؟ أم هو عدم قناعة من الأساس بما كتبوه ؟هذا إذا علمنا أن هناك محاولات باءت بالفشل لجمع المشايخ الموقعين بمن انتقدوا البيان من طلبة العلم لترميم ماأحدثته تلك الخطوة من شرخ .
اتهام الموقعين بالهروب من تبعات الحوار الداخلي البالغ الحساسية إلى حوار لم يقصد منه إلا الاستهلاك لم يطال العمق ، دفع الذين صاغوا البيان، وأعدوه إلى إعادة التفكير بقضايا داخلية ،هم مطالبون بأن يتوجهو إليها، وأن يساهموا في علاجها، كقضايا التعامل مع المخالف المسلم في المذهب والطائفة، والتأسيس لخطاب متسامح ،يقبل التعددية والتنوع، حيث ذلك خير من القفز على المشاكل الحقيقية، وتجاهلها إلى قضايا لافائدة منها سوى البريق الإعلامي،والاستهلاك.
كان من المتوقع منذ أكثر من شهرين أن يصدر بيان جديد يتطرق لتلك المواضيع، كما يتناول أسس الإصلاح المتدرج والحوار الثقافي بعامة. والبيان الذي يفترض أن لاتتجاوز صفحاته الورقتين سيكون مقتصراً على أسس الحوار، إضافة إلى إدانته لبعض ممارسات الجماعات الجهادية. غير أن المؤسف -حسب علمي حتى الآن- هو أن بعض الأسماء الكبيرة التي وقعت على البيان السابق، لن تشارك في هذا البيان الذي تأخرت ولادته كثيراً- أحدهم برر امتناعه بأن هناك انزعاجاً من قبل السلطات الأمنية تجاه فكرة إصدار البيانات أساساً،وأنه واجه توبيخاً بسبب ذلك- فلم تأخر صدور البيان؟ لأنه سيتناول قضايا بالغة الحساسية ، ولأن المبضع سيمس الأمراض الحقيقية، والمشاكل الجوهرية التي نعاني منها، فهي ستشكل العتبة الحقيقية لمستوى من الوعي يتصف بالرقي،والإحساس بالمسؤولية. وسيجعل البعض في مواجهة حقيقية مع القاعدة العريضة من الجماهير التي كانوا عبر سنوات مضت من أكبر المساهمين في تشكيلها،لتتضخم وتتسع لتشكل عائقاً ومعتقلاً فكرياً كبيراً لمن ساهموا في إيجادها.
كما أن تناول قضايا المخالف المسلم كانت دائماً تشكل حساسية في التراث الديني السني/السلفي، مالا تجده في كتب الفقه التي تناولت أحكام التعامل مع أهل الذمة “غير المسلمين في بلد أكثريته من المسلمين، ويخضع لحكم الشريعة الإسلامية” مثلاً.والمتابع لنتاج الفكر الإسلامي المعاصر ،يلحظ استشهاد عدد من الكتاب الإسلاميين ، بأقوال لأعلام الفكر الغربي التي تستدعى كشاهد على إقرار غير المسلمين بفضل الإسلام ونبيه وتميزه عن غيره، مثل وول ديورانت.أليكسيس كارليل. جوته الألماني،تشوميسكي،وربما يضرب المثل في الثبات على المبدأ بمثل جيفارا، ونيلسون مانديلا، ولكنك لن تجد استشهاداً ببعض مقولات طه حسين، أو جارودي، أومحمد حسين فضل الله، أو استدلالاً بثبات عمرو بن عبيد المعتزلي وواصل بن عطاء.أو محمدباقر الصدر، وحسن نصر الله. كما لاننسى أن ثلاثة من الموقعين على البيان السعودي منهم سفر الحوالي لم يترددوا في أن تكون أسماؤهم في ذيل بيان ينضح بالتمييز ،ويرشح بالعنصرية الطائفية، صدر قبل أيام يدين الضربة الأمريكية المرتقبة للعراق، ويوجب على أهل السنة أن ينصروا إخوتهم في العراق باستثناء أبناء الطائفة الشيعية!.
وحينما دشن أحد المنتديات الحوارية الإسلامية على الإنترنت، تم الامتناع عن تسجيل بعض الأسماء المعروفة التي لاتلقى ترحيباً لدى الإسلام الحركي المحلي ، تجنباً للإحراج ، ولكنهم احتملوا تواجد أعضاء بطروحات وأفكار علمانية تحت أسماء مستعارة .
أعتقد أن هذه المفارقات تجد جذورها في تراث هائل من أقوال السلف، وتعاملهم مع المخالف حيث بإمكانك أن تجد آراء تذهب إلى أن التقوى تتمثل بأن تأكل مع غير المسلم على أن تجتمع مع مسلم مخالف لك في النحلة على مائدة واحدة، وأن نكاح مسلمة محصنة عفيفة مخالفة لك في المذهب/المعتقد هدم للدين، بينما يجوزون أن ينكح مسيحية أو يهودية، أو أخرى ساقطة لاتعرف العفة ولا الفضيلة. كما ستجد من ينخرط في مناظرات مع أهل الكتاب ولكنه لايجوز لك أن تناظر مسلما مخالفاً في الاعتقاد أوالطريقة أوالنحلة…
إنه تراث لم يزل حاضراً وبقوة ، ومرشح للبقاء طويلاً، بعد أن تحول اليوم عفونة تصبغ حياتنا وتسمم أجواءنا، وبعد أن فقد عصارته، وتعفنت ثماره، ولم يبق منه إلا الدغل، وخيوط عنكبوت تلتف حول أعناقنا،وتعرقل مسيرتنا.
الرسالة الجوابية نكأت جراحاً لم تندمل بعد، وجعلت آباء البيان السعودي في موقف حرج،وخصوصاً أنها جاءت في وقت وهم يتهيئون لإصدار بيان آخر عن الضربة العراقية المرتقبة-هو بيان ثان غير البيان السابق ذكره سيشمل أسماء من شتى الدول العربية – فهم مطالبون بالرد على عدد من النقاط بعد شهور من بيانهم الذي أصدروه، وهي مرحلة لم يعلم الأمريكيون في الضفة الأخرى أنه حدث فيها من التحول في المواقف مالا يمكن لأحد أن يتصوره، إلا من عاش في منطقة هي أشبه بقبعة الساحر تلد الشيء ونقيضه؟.
والخلاصة أن يعي بعض الشرفاء من ذوي الهم الإصلاحي، أن بإمكانهم بعد كل تلك التهاويل التي وقعت أن يشقوا طريقهم،من دون الرهان على أسماء بائسة مأزومة تحتاج إلى فترة طويلة من النقاهة حتى يتم تأهيلها، ولئلا تتحول من عون وسند إلى عبء وعثرة كبرى، ولنا في الأنبياء والمصلحين والغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس أسوة حسنة.فمثل هذا النوع من الأفكار والتحولات الثورية نسبياً، لن تشكل شيئاً ذا بال مالم تكن نقية واضحة كفلق الصبح وحينما تكون خطىً مترددة، فقدرها أن تموت في مهدها.كما عليهم أن يدركوا أن التعايش والحوار الداخليين هما نقطة البداية الحقيقية للإصلاح الديني والفكري، وذلك أولى بألف مرة من الهروب إلى قضايا تبقى على أهميتها هامشية وثانوية إذا ماقورنت ببلايانا ورزايانا المحلية.
هذه هي قصة بيان المثقفين السعوديين” على أي أساس نتعايش”. فهل سيرد أصحابنا على الرسالة الجوابية الأخيرة للمثقفين الأمريكان بعد أن تأخروا في الرد حيث الطقس لدينا سريع التقلب والمفاجآت على الأبواب، والفرصة للتعبير والحرية في إبداء الرأي قد لاتحالفك دائماً؟ فإنما هي فرص تهتبل، وطنين الذباب دائماً حدث فخم.