ي لفتة مهمة للغاية أشارت نشرة «أخبار الساعة» أمس الأحد إلى الجهود التي توليها دولة الإمارات العربية المتحدة في سبيل تعليم اللغة العربية.
منذ منتصف القرن التاسع عشر انبثقت نهضة في العربية وآدابها من سوريا ومن مصر، سوريا الشام ولبنان في البدء، ثم انتقلت هذه الروح إلى مصر. كلا البلدين كانا تحت حكم العثمانيين حيث التركية هي اللغة الرسمية، ومن بعد الترك جثم الإنجليز والفرنسيون عقوداً، ومع ذلك انتعشت آداب اللغة العربية وعرف القرن العشرون أعظم الكتاب والشعراء الذين نافسوا في إبداعهم كبار أدباء وشعراء العربية الأقدمين، ومن هؤلاء المُحْدَثِيْن من كان ينطق لغتين، سواء كانت لغته الأم التركية، أو كانت العربية تجاور فيه منذ المهد الفرنسية والإنجليزية.
في هذه الأثناء كانت جزيرة العرب الواسعة الأصقاع باستثناء مكة والمدينة وبعض حواضر اليمن وعُمان، غارقة في أمية وظلمة من العلوم والحضارة إلا ما رحم الله. في العصور المبكرة للحضارة الإسلامية، كانت البادية تمثل خزاناً ومادة خاماً لعلماء وفقهاء اللغة ومؤلفي القواميس، ولكن هذه الجزيرة بقيت على حالها إلا ما شذ منها، حتى شعراؤها الذين برزوا واضطروا إلى الهجرة والتكسب شمالاً، حيث الشام والعراق كانت أساليبهم حوشية وخشنة، ما أسرع ما تكون أرقَّ وأعذبَ حين تختلط بالحضارة.
في أزهى عصور الحضارة العربية كان ابن الرومي شاعراً لا يقل منزلة عن البحتري وأبي تمام، بل فاقهما في قدرته الهائلة على وصف الطبيعة والفصول، وفي تصويره متاهات النفس الإنسانية ومشاعرها، لا يدانيه أو يفوقه إلا أبو الطيب المتنبي. ترعرع ابن الرومي في بيت كانت العربية اللسان الثالث له مع اليونانية والفارسية، وقد ارتضع هذا الثالوث البديع من حليب أمه، ولولا شخصيته المتشائمة، وكثرة عداواته، لحظي بمكانته اللائقة التي تجعله رابع أربعة من كبار شعراء العرب عبر العصور. يشابهه في ذلك أحمد شوقي أمير الشعراء.
الذي أرمي إليه من هذا الاستعراض أن الجزيرة العربية مع استثناء اليمن والحجاز قديماً، لم تزل تعاني من أمية، ومن ضعف جلي في الخطابة والتحدث وفهاهة مخجلة بين أبنائها الذين يفخرون بأصولهم العربية النقية، هو ضعف شامل تحدثاً وكتابة ونحواً، ولم يغنِ عن أهلها أنهم كانوا يعيشون في عزلة من مساكنة ومخالطة غير العرب.
إن مقارنة عابرة بين أساليب الكُتَّاب/ الفقهاء الذين ولدتهم هذه الجزيرة مع آخرين في الحقبة نفسها من الشام أو مصر أو العراق أو المغرب تكشف بجلاء البون الواسع الكبير الذي يعكس ما للحضارة وللمجاورة للثقافات واختلاط اللغات من تأثير في غنى اللغة وعذوبتها مع تعلم العربية نظرياً وتحدثاً في الآن نفسه.
في مكة أم القرى مع ظهور الإسلام كان الخدم والمماليك ذكوراً وإناثاً إما أحباشاً أو فرساً في النادر، وكانوا عجماً لا يفصحون، ومع ذلك كانوا يخالطون الناس ويرعون الأطفال ويقضون ساعات من النهار معهم، ولم تكن تلك عقبة دون أن يُبعث من بينهم أعظم من نطق الضاد، وأفصح الفصحاء، وأن يبز أهل مكة أحياء العرب بمن فيهم اليمامة القصية عن الاختلاط بغير أبنائها وقبائلها، وتضاعف هذا الاختلاط بعد الفتوحات وبعد اتساع الرزق والثراء الفاحش، وأنجبت مع ذلك اللغة العربية عباقرتها وعظماءها.
الخلاصة أن الإمارات بيئةٌ مهيأة لأن تكون أرضاً ولوداً لمن يذكرنا بأبي نواس وطه حسين وأحمد شوقي وابن الرومي. مع تعليم جيد، وممارسة لا تكل ولا تملُّ، تحبب الناشئة لا في أساليب المعلقات العشر ولا بعبدالحميد، بل بأساليب تضاهي ابن الجوزي وطه حسين ونزار ومحمود درويش وعلي الطنطاوي، ومحمود شاكر ومحمد عابد الجابري.