منصور النقيدان
مجلة المجلة28/5/2000
العدد1059
كم هي لذيذة وحزينة جداً تلك اللحظات التي تعيد إلى الذهن جميع الذكريات المرة المدفونة في أعماق النفس …أحلام مُعثَّرَةٌ ..وآمال كفراشات فقدت أجنحتها لم يبق منها إلا دود يقرظ أوراق قلبك..وأيام صفاء…. وفراق الأحبة..
..في تلك الساعة االرطبة الشجية ، حيث يكفن حلم ويولد بؤس ، وشمس الأصيل تؤذن بالغروب، أسلم عبدالله الدويش روحه عن ستة وثلاثين خريفاً.
..كان عبدالله يرفع يديه كل جمعة مبتهلاً إلى الله أن يقبض روحه المعذبة، ويختم له بالحسنى.
..وحين تريد الكتابة عن أناس عشت معهم ..عن نفثات الذكر ودعاء السحر ، وزجل التسبيح، ونقاء السريرة، وبساطة العيش.. فإن الحياد والموضوعية ضرب من المحال.
كنت أنا وصديقي”عبد الله الحبلين” من تلاميذ الشيخ عبدالله، نقتدي بسمته ونأتم بهديه، وكان قد أرسل إلي قبل وفاته ألا تحضر لي درساً. لقد أثرت الفتن وحركت الساكن، وأزعجت كثيراً من الناس بأرائك، وقبل وفاته بأسبوعين أرسل إلي أن أحضر، فشمخت بأنفي، وتوفي بعد ها لأبكيه كالأم الثكلى.
كان صديقي زاهداً أواهاً مخبتاً لايفتر لسانه عن ذكر الله حيثما انقلب، وإذا ما ابتدأنا السير إلى دروس العلم شرع في قراءة القرآن، حتى إذا أتى على آية سجدة سجد وإن كان في السوق!..
عرفته وأنا ابن ستة عشر عاماً ولما تبرأت من التعليم النظامي، وأتلفت أشرطة الكاسيت، وأحرقت معظم مالدي من كتب المعاصرين، وخلعت الساعة من يدي، وحولت التوقيت إلى الغروبي…. قيل لي ساعتها :أنت الآن على الحق فالزم تصل… وما تدين الآن به وتعتقده هو الحق عند الله!
وكان كل من ليس معنا فهو خصم لنا، وكل من يتساءل أو يورد إشكالاً، فإنما أُتيَ من قبل نفسه فليتهمها. واحذر أن يكون قلبك كالإسفنجة تمتص كل مايِرِدُ عليها، وليكن قلبك كالمرآة الصافية ، واخش أن لا تقبل الحق حينما يعرض لك أولَ مرة ، فقد لا توفق إليه كرة أخرى…(كما لم يؤمنوا به أول مرة)..
كانت الأشياء لدينا أبيض وأسود ونسينا مابينهما من ألوان. ولأننا كثيراً ما ننخرط بجدل ومناظرات مع المخالفين ، فقد كان لدينا أجوبة جاهزة، وإلزامات نغتبط بها ونراها ساحقة ماحقة، ولكننا نصاب بخيبة الأمل والإرباك، حينما يلتزم الخصم، فلا نحير جواباً سوى الحوقلة، حتى يفتح الله علينا. فإن كان وإلا قطعنا المجلس وطردنا الخصم ، وتعوذنا بالله من حاله.
كان أشد المخالفين علينا وأكثرهم إزعاجاً لنا هم الذين كانوا معنا ثم انكشف لهم عوارنا، فانقلبوا ضدنا… يعيبون طريقتنا، ويسفهون أحلامنا….
كان هجر الآخرين في الله ومقاطعتهم نصف المنهج ، والنصف الآخر هو هجر النفس ورعوناتها. كنا نجلد ذواتنا حتى بلغ الحال أن قال أحدنا :لوددت أن أشطر نفسي شطرين وأهجر الشطر الآخر!.
ولأن حمود من الذين ضلوا بعد هدى وتنكب الحق وتنكر له بعد معرفته، فقد كنت أحاذر الحديث معه ..وكان دائماً لي بالمرصاد .يلقاني فأكفهر في وجهه، ويمد يده إ لي بالسلام فأعرض عنه، فإذا أيس جمع يدي ثم صفعني بأصبعيه ،وقال: كم أنت سفيه..
لن تصبر أكثر من سنتين، وستذكر ما أقول..
…كان حمود يشكل لنا كابوسا، ولهذا كثر التحذير منه بين الأصحاب.
دار بيننا ذات يوم حديث ونقاش عن كيفية التعامل مع الخصوم ، وهل يفرق بين من أقيمت عليه الحجة ، وبين الجاهل ، وهل المعاند كالمعرض ؟ أم هل نبدؤهم بالتحية والسلام ؟أو نكتفي بالرد ؟ مالحكم إذا كان المخالف أباً لي أو اخاً !
لم يكن الشيوخ ير تضون مثل هذه التقليعات والمغالاة..ولكن العالم لايتوقف عند آراء الشيوخ.
ولأنه قيل لنا إن كلام المتقدمين والأسلاف قليل كثير البركة ، وكلام المتأخرين والمعاصرين كثير قليل البركة ، فقد كان مفهوم البركة مشكلاً علي حتى أفادني عبدالله أن المعنى : قليل العبارات عميق المعاني..
وهكذا انجلت الغمة
وبما أن الوظائف الحكومية لم تكن محبذة لدى الأصحاب ، وطلب الرزق من الحلال والبعد عن مواطن الشبهات من أسباب إجابة الدعاء ونقاء السريرة وطمأنينة القلب، فقد كان غالب عمل الأصحاب في التجارة….
.كان محمد بن عبد العزيز السليم لا يأكل إلا من كسب يده، وقد يأتيك زائراً أو عائداً، ولكنه لايشرب عندك فنجال قهوة…
أخذ على هذا ثلاثين عاماً حتى فاضت روحه الطاهرة.
كنا نجتمع بعد صلاة المغرب حزانى مكاسير مما أصاب الناس من الهلاك والإغراق في المعاصي ولذائذ الدنيا، فنقبل على كتب سلفنا الصالح ، ولا يطيب لنا ذلك إلا بعد إطفاء الأنوار وإضاءة السراج ،اقتداءً بسلفنا الصالح .
كنا نتأثم من النوم في بيوتنا لوجود التلفزيون وآلات اللهو، فكنا نأوي إلى المساجد ونفضل العتيق منها، وأخيراً قررنا أن نتخذ لنا مسكناً…
وقع اختيارنا على منزل من الطين قبالة محراب مسجد الشيخ صالح الخريصي ببريدة، ولكن عداد الكهرباء كان تالفاً، والدار تحتاج إلى تسليك جديد، ولكن صديقي خشي لورعه أن لا نجد إلا مهندساً غير مسلم . وهكذا ومن غير أن نكلف أنفسنا عناء التحقق والسؤال، ولحاجة في نفوسنا أن نعيش كما كان أسلافنا وآباؤنا يعيشون فضلنا أن نبقي الأمر على ماهو عليه، ونعيش أربعة أشهر ، وفي حمَّارة القيض حياة بدائية ..سراج ..وقربة ..ومهفة..فالأجر على قدر المشقة ونحن نعصي الله عدد أنفاسنا كما كان شيخنا عبدالله يقول.
(..كثيراً مايكون التجسس على المستقبل واستعجال النسق الأبدي، ومحاولة الإمساك بالخيوط قبل أن تولد انتهاكاً للقدسيات)
كان حمود يقول لي: سنتين ..سنتين يامنصور، ولكن الأمر كان يحتاج خمس سنوات أخرى لأبلغ منعطفاً آخر وأبدأ رحلة جديدة……