قصة الأنصار في المدينة النبوية هي أكبر من الاختزال والتسطيح في أدبيات الإسلام الحركي أو في خطابات زعمائه، وللمصادفة فإن زعيم «داعش» ذكر في تسجيله لأتباعه الأسبوع الماضي من وصفهم بـ«المهاجرين والأنصار»، يعني بالمهاجرين شذاذ الآفاق الذين وفدوا إلى مناطق حكم «داعش» ليكونوا جند «خلافته» ووقوداً في سبيل تحقيق طموحه، وبالأنصار قصد أهل البلاد العراقيين «الدواعش» الذين استضافوهم بالترحاب ودمجوهم في مجتمعهم.
لقد كان التحول الذي عاشته المدينة النبوية مع هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إليها واسعاً، كان تغيراً ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، كما أنه أسهم في تغير موازين القوى عسكرياً. فطبيعة العلاقات الاجتماعية تجلت في المؤاخاة التي عقدت بين كل مهاجر وأنصاري، وفي التزاوج بينهم، ورغم أن المدينتين متقاربتان إلى حد كبير وبينهما نسب ورحم حتى قبل الإسلام، إلا أن المدينة عاشت فترة امتدت أكثر من عشر سنوات وهي في عملية تكيف مع عادات وتقاليد وفدت إليها واستوطنتها. وعلى سبيل المثال فإن العلاقة بين الذكور والإناث وفي تفاصيل أدق في العلاقة الحميمة بين الأزواج كانت إحدى المسائل التي انشغل بها المسلمون في المدينة، والقرآن تناول بعض هذه التفاصيل في سورتي البقرة والأحزاب. مكانة السيدات المكيات في المدينة طغت أحياناً على السيدات المدنيات، فالمدنيات رغم حظوة بعضهن ومكانتهن المرموقة مثل الربيع بنت معوذ، وأم حميد الساعدي، إلا أنه كان للمكيات تفوق ظاهر عليهن، وهكذا.
نلحظ أن سادة الأوس والخزرج وزعماء المدينة الكبار كانوا قد غادروا الدنيا مع أواخر حروب الردة، ولم يبق منهم من كان في منزلة أسيد بن حضير أو عبادة بن الصامت الذي اغتيل في ظروف غامضة، وتضاعف الأمر سوءاً مع بداية الفتوح العظيمة والتوسع شمالاً وشرقاً. وقائع السيرة النبوية تروي سير سادات الأنصار من الأوس والخزرج الذين كانوا يمثلون أهل الحل والعقد في يثرب في عصر صاحب الرسالة، وكانوا عاملاً كبيراً أضيف إلى حكمة الرسول في تهدئة النفوس عندما تجيش وعندما تثور في الناس حمية العصبية. في السنة الثانية عشرة للهجرة لم يكن قد بقي من هؤلاء أحد، خلافاً لسادات قريش وأهل مكة الذين كانوا يتنامون ويعيشون أفضل عهودهم ازدهاراً.
وقد عانى الأنصار كثيراً بعد رحيل النبي، وبعد ذلك مع ظهور الإسلام واتساع الأرزاق وتمدد دولة الإسلام وتعدد الأمراء والقادة والولاة، فالأنصار كانوا يرون أنفسهم عند المقارنة -في تولي المناصب ووظائف الإمارة- أقل حظاً بكثير من المهاجرين وأبنائهم، بل رأوا أنهم أدنى حظاً ممن وفد عليهم بعد علو الإسلام في العهد المدني أو دخل الإسلام بآخره من المؤلفة قلوبهم. وزادت مرارتهم في العهد الأموي بسبب الشعراء الذين كانوا على صلة وثيقة ببني أمية وكانوا يؤلفون القصائد في شتمهم والنيل منهم. كانت ظاهرة القصائد في سياق النقائض محاولات لكسرهم وإشعارهم بالدونية.
تعني هذه التحولات أن الثقافة السياسية ووسائل صناعة الزعامة والدهاء السياسي تجلى في المهاجرين أكثر من الأنصار. فما حصل لم يكن مجرد أن الأنصار أعطوا بلا حدود، بل كانت تطورات الأحداث بعد السنة السابعة للهجرة تعكس البون الكبير بين من ولد صاحب الرسالة في أحضانهم وبين من عداهم. من يتعمق أكثر في مواساة نبي الإسلام للأنصار عقب حنين وكلماته العاطفية الحزينة لهم سيرى أنها كانت ترمز إلى هذا البون بين الفئتين رغم مرور سنوات على اندماج المجتمعين.