في ثورات 1848 واجهت الدول الملكية في أوروبا تحديات كبيرة، فقد عرفت استقراراً طويلاً ونسبياً إلى حد ما، ونجت من الدمار الذي تسبب به نابليون الأول في حروبه التوسعية لتحرير أوروبا، إلى حين وفاته في عام 1814. ولم تتعاف أوروبا من هذه الموجات الموّارة من الحروب والاضطرابات والاحتجاجات، مروراً بظهور بسمارك الذي وحد ألمانيا، وأخضع فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر. وكانت هذه التحولات العميقة هي المسار الطويل الذي أقحم أوروبا في أتون الحرب العالمية الأولى.
أي أن هذا التحول الكبير كان يضم في طميه السيئ والجيد، الآلام والآمال الكبار. كان المحرك لكل هذه الزلازل هو أطماع الدول العظمى في التوسع وضم أراضٍ جديدة، وإن كانت الشرارة مع ثورات الفلاحين ضد الإقطاع، وتصاعد الحس القومي عند شعوب وسط وشرق أوروبا، ألمانيا ستكون لستين عاماً لاحقة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر حتى عشية الحرب العالمية الثانية العامل الأكبر في تشكيل خريطة أوروبا.
عقب الحرب العالمية الأولى تفككت خمس إمبراطوريات، وكان العثمانيون يقاتلون لتخليص بلادهم من احتلال القوى العظمى، وكانت اليونان قد انفصلت عن حكم العثمانيين قبل ذلك بتسعين عاماً، والكماليون يقاتلون بشراسة لاستخلاص ما وقع بيد اليونانيين ما بين 1919-1922. وتتابعت الثورات في الدول العربية التي أضعفت يد العثمانيين كثيراً، فكان خيار كمال أتاتورك القاسي بالتخلي عن الغالبية الساحقة من الأراضي العثمانية هو الذي حافظ على وحدة تركيا حتى اليوم.
كانت الدول الأوروبية العظمى عقب الحرب العالمية الثانية قد اضطرت مرغمة إلى التخلي عن كثير من مستعمراتها، أي عن أجزاء من ممالكها، عن أراضيها البعيدة عن الوطن الأم، فالثورات والاضطرابات في المستعمرات، إضافة إلى الاحتجاجات والخلايا المسلحة للتيارات اليسارية والشيوعيين المدعومين من السوفييت سرعت بالاستقلال.
قبل اجتماع يالطا بعد نهاية الحرب العظمى الثانية كان تشرشل متردداً بين التضحية باليونان والإبقاء على بلغاريا ورومانيا، أو العكس، ولكنه اختار اليونان التي كانت بلداً تحكمه الملكية، وأدار ظهره لدول أوروبا الشرقية. وكانت بريطانيا العظمى مع انتهاء الحرب العظمى الثانية محطمة وفقيرة تضافرت عليها الكوارث الطبيعة والعواصف والأعاصير والجوع. البريطانيون كانت لديهم قناعة تتعاظم بعجزهم عن مواصلة حكم الهند قبل الاستقلال بعشر سنوات، ولكن الحرب العظمى أجّلت كل شيء.
في مجلة «السياسة الدولية» المصرية تذكر سالي إسحاق أن أغلب سلاسل الثورات التي حكم عليها التاريخ الدولي بالفشل وقت وقوعها، تم وصفها في فترات لاحقة بمثابة الحلقة الضرورية من حلقات متعددة أسهمت جميعها في إحداث التغييرات المرغوبة للقوى العظمى. وتذكر إسحاق أن النظرة الكلية لفترات تاريخية طويلة توضح الفواصل الأساسية لتطور مناطق العالم والجماعات الإنسانية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
أيضاً تكشف هذه التطورات دور المخابرات في إذكاء شرارة الاضطرابات وتهيئة المناخ لصعود الحركات الاحتجاجية، وإثارة الشعور بالمظلومية والتلاعب بالأقليات، وهو ما يمكننا أن نجد مثاله في الحلم الكردي الذي تلاعبت به الدول الكبرى خلال المئة عام الماضية. وما هو أكثر إدهاشاً هو الوعي بالتحولات الداخلية في بداياتها، كيف أن التململ والنظرة القاصرة لبعض مكونات المجتمعات الإثنية ومتعددة المذاهب والأديان الطامحة نحو الانفصال، قد تتنامى إلى أن تكون السبب الذي يصل في النهاية إلى تقسيم الدول وانهيارها وإثارة الحروب الأهلية. وكيف أن المطامع الضيقة للفئات داخل المجتمعات يمكنها أن تتسبب كوارث أكبر وأزمات أعمق لأبنائها يصغر أمامها ما كانت تتململ منه قبل الانفصال. وهو موضوع ورقة مهمة للباحث الإماراتي مشعل القرقاوي نشرت على موقع مركز دلمة.