في العقدين الماضيين ظهرت دراسات كثيرة عمدت إلى بيان ما يمكن تسميته «الإسلام واحداً ومتعدداً»، تناولت الإسلام السني والإسلام الشيعي، الأفريقي وإسلام المتكلمين، وإسلام الفلاسفة وحتى إسلام الخوارج. كل هذه الدراسات تضمنت شروحاً عن الفروق والاختلافات والتباينات والتناقض في فهم وممارسة كل نوع من هذه الفئات السالف ذكرها للإيمان اعتناقاً وسلوكاً عقيدة وشريعة. كيف تفهم الإسلام، وكيف تمارسه، وما الفوارق وما المشتركات بينها. يهدف هذا المشروع إلى التأكيد على حقيقة تاريخية عرفها الإسلام عبر أكثر من 14 قرناً، هي أن هناك تنوعاً كبيراً بين فهوم أهل الإسلام لتحقيق مراد الشارع عقدياً وفقهياً. وكيف يمارسون شعائر الدين، ما هي الأصول والفرائض التي يجب الوفاء بها، وما هي المكملات والواجبات التي لا تنقض أصل الإيمان، ولا تنقصه ولا تخدش كماله.
ألوان الطيف هذه ليست إلا نتيجة التقاليد والعادات الاجتماعية والثقافة العميقة التي تشكلت عبرها المجتمعات وكانت ذات تأثير كبير في هضم الإسلام وصياغته، وهي تؤكد شيئاً واحداً هو أن هذا الانتشار الواسع في مساحة جغرافية مترامية الأطراف يعني أن الإسلام الذي نقرأ عنه تاريخياً في الهند وسمرقند والصين وفي الأندلس وشمال أفريقيا وجنوبها، كان أنماطاً وإسلامات. ما بين السنغال ومصر والحجاز وتركيا وإندونيسيا وتتارستان، كان القرآن يتلى ويفسر ويؤول ويمارس، في بعضها كان الدين خليطاً من عقائد الإسلام وبقايا الوثنية، وفي أخرى كان مزيجاً من التقاليد الاجتماعية السابقة للإسلام والتي صمدت وبقيت كالجوهر الذي لا يمكن خلخلته ولا اختراقه ولا تحويره، وفي مجتمع ثالث كانت الأحزان والمآسي والنكبات والفقدان قد حفرت عميقاً في تشكيل النفوس ووعي المؤمنين، وفي أخرى كان الانجذاب نحو الأسى خبزاً لا يمكن الاستغناء عنه، ومنها الذي أثرت الكوارث الطبيعية والمسغبة والجوائح في فهم الناس للإيمان، كما تجسد في تمازج الإيمان مع قيم راسخة تشكلت عبر أجيال وقرون حتى غدت سجية ثابتة.
وما لا يشكل مفاجأة هو أن هذه الفئات على تعددها كانت تعود في النهاية إلى أصل الفطرة، إلى أساس الإسلام المنجي في الآخرة، أي إلى الأصل الذي يعود إليه من وصفهم أبو الحسن الأشعري بـ«الإسلاميين» أي كل المسلمين المختلفين منذ السقيفة، ممن أقروا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، ولكنهم تنازعوا على كل ما عداها، كل هذه الفرق والطوائف، تعود إلى أصل واحد جامع هو «شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله».
في لقاء أجرته مجلة فرنسية الأسبوع الماضي مع فتحي بن سلامة، المحلّل النفسي وأستاذ علم النفس في جامعة باريس، أكد أن الإسلاميين في تونس فشلوا، حيث وجدوا أنفسهم عاجزين عن استكمال خطوات مشروعهم، وسيمارس الجيل الموالي لمن عمره بين 15 و25 سنة حاليّاً، حقّه في حرّية الضمير، وأن الشبيبة الجديدة في المجتمعات المسلمة لا يمكنها إلاّ النفور ممّا فعله التعصّب، بسبب أنّ النفور من الوحشيّة التي تُرتكب باسم الإسلام هو في الواقع عميق بالفعل في العالم الإسلامي، حتّى أنّنا بتنا نرى آثاره الأولى.
هذا التنوع الذي وجد مظلته في سعة الشهادتين ورحابة الإسلام، هو ما يمكننا تلمسه اليوم من نفور المسلمين في العالم من شيوع وهيمنة تفسير ديني قضى على الجمال والفنون والطقوس الدينية التي شكلت عبر التاريخ الدين الشعبي للعامة وحمتهم من الإملاق الروحي. وعودة هذا التنوع مرة أخرى كما أنه ضرورة وواجب لحياة المجتمعات المسلمة المنهكة، فهو ضرورة للبشرية روحياً، ولضمان استقرار الإنسانية وتعميق السلام فيها، وهو فوق ذلك مستقبل الإسلام ومجتمعاته.