منصور إبراهيم النقيدان*لم أتفاجأ حينما اتصل بي صديق وأخبرني أن فتوى صدرت بالحكم بردتي عن الإسلام، إثر الحوار الذي أجراه معي منتدى الوسطية www.wasatyah.com .كما أنني أكملت حديثي الممتع بعدما اتصل بي آخر لاحقاً ليبلغني أن ثم فتوى طويلة مفصلة أخرى صدرت بكفري وقع عليها أربعة.الغريب أن الفتوى الأولى أصدرها صديق سابق، والأخرى وقع عليها اثنان من معارفي السابقين.الأكثر طرافة أنني كنت قد ذكرت في الحوار أنني لست مع قمع مثل هذه الأصوات الغالية مهما اختلفت معي، حتى ولو بلغ الأمر إلى حد التكفير-مالم يتجاوز الأمر أكثر من ذلك- وضربت المثل باثنين. كانت المفاجأة أنهما كانا من الموقعين.
برأيي أن الواجب تفكيك هذا الفكر، وبيان خطورتِه، وإخراجُه للسطح ومناقشته في العلن، وإفساح المجال في وسائل الإعلام (المحلية) من صحافة وتليفزيون لهذه المهمة النبيلة. فليس من شيء كفيل بتعرية هذا الفكر الخطر وتحجيمه مثل أن تتم مناقشته في الهواء الطلق وفضحه، من دون تردد أو تخوف . وأن تساند هذه الحملة حملة أخرى بإحراج رفاقهم السابقين ممن يمثلون اليوم رموزاً يشار إليها بالاعتدال، لتحديد موقفها من أسماء محددة، تبشر بأفكار الغلو والتكفير، وتحظى باحترام من يسمون بالمعتدلين.
اتصل بي أحد الأصدقاء وقال لي إن الشيخ (….) يبلغك تعاطفه معك واستياءه من هذه الفتاوى، وأبدى تخوفه من احتمال تعرضك لاعتداء. كما أنه يعتذرعن إعلان هذا الموقف، فهو يخشى أن يخسر كثيراً من شباب الجهاد الذين يثقون به.قلت له: قل له إنني لست بحاجة إلى مثل هذا التعاطف، فأنا انتظرت منه كلمة حق يقولها منذ أربع سنوات . وهو إن لم يكن من الشجاعة أو الوضوح والصدق بحيث يكون صادقاً في تحديد أفكاره بعيداً عن الرياء الاجتماعي، ورضى الأتباع والرعاع، فاستنكاره ليس إلا نفاقاً.
اعتاد هؤلاء حينما يمارسون هذا الإرهاب ضد الآخرين أن يلوذ الضحية بالصمت، والانكماش، أو أن ينطرح بين أيديهم يسألهم العفو. ومنهم من يحاول أن يكثف في كتاباته المنشورة الشعور الديني، والإكثار من الاستشهاد بآيات القرآن والسنة.إنها رسالة تقول لأولئك:يا جماعة الخير أنا مازلت مسلماً. أنا أؤمن بالله. أنا مثلكم. والمفارقة حينما يصدر ذلك من أشخاص لاتعني لهم تلك النصوص شيئاً.
أنا أؤمن تماماً بحرية التعبير والانتماء الديني أو الطائفي، ولكنني أدرك جيداً أن الدعوة إليه، أو التفكير في ممارسته ومحاولة ذلك في مجتمع كالمجتمع الذي درجت فيه هو انتحار وجنون. غير أننا بحاجة أحياناً إلى أن نخوض هذا الجنون.نحن بأمس الحاجة إلى أن نظهر مواقف شجاعة تشعرنا بالرضى عن النفس، والتناغم مع حقيقة وجودنا.
الكثير من الأصدقاء والمقربين لم يخفوا قلقهم من أن يتطور الأمر بعد فتاوى التكفير إلى مراحل أكثر خطورة، إلا أن هذه التقليعات ليست جديدة بالنسبة إلي. فعبر سنوات مضت واجهت مثل هذه العقبات والمنغصات.
أستطيع اليوم أن أقول إنني اكتسبت مناعة، أوربما أصبحت أكثر صلابة.
لقد كنت يوماً أحد الذين يتبنون هذا الفكر المتطرف، وكنت في كل مرة أُقابَلُ بالعفو والتسامح، وأجد من يقف بجانبي ويأخذ بيدي ويقول لي :هاهو الطريق أمامك…لهذا فأنا لاأحفل بما قد تشكله هذه الفتاوى من خطورة على المستوى الشخصي. يداهمني أحياناً شعور بأنني أتطهَّر.
الخطورة تكمن في أن لاتجد هذه الفتاوى من يعلن إنكاره لها واستهجانه لها. وفي ألا نجد من علماء الدين والكتاب والمفكرين من يأخذ على عاتقه مسؤولية فضح هذا الفكر وجذوره. قد يكون هذا عائداً للخوف ربما.وخصوصاً في مجتمع تجد فيه هذه التوجهات الخطرة أرضاً خصبة للنمو والانتشار والتمدد، فهي توجهات مهما تراءت للمراقب غريبة وطارئة إلا أنها تجد جذورها في ثقافة المجتمع وانتمائه المذهبي. وفي خطاب ديني يردد صباحاً ومساءً.
الأدهى من كل ذلك حينما يكون الخطاب الرسمي المعلن ضد هذه الظاهرة الخطرة( تنامي الفكر التكفيري)، ولكنه في المقابل يقف جداراً حائلاً دون التطرق لها في وسائل إعلامه.
لن يمكننا معالجة مثل هذه الظواهر ما لم يكن هناك اعتراف بوجودها أولاً، وجرأة للحديث عنها علناً.
نسمع أحياناً أن العالم الفلاني استنكر أو رد أو استهجن …إلخ، ولكننا نعلم أن هذا الفكر التكفيري الخارجي يجد له مستنداً وجذوراً في (النصوص المؤسسة) وفي ثقافة راسخة تعود إلى العهد الأول، وهذا مايحاول البعض أن يتجنبوا الحديث عنه لحساسيته.وهو مالا يمكننا استبعاده إن أردنا أن نقدم شيئاً ذا بال فيما يخص هذه المسائل.
صحيح أننا أمام هذه الإشكاليات الكبرى نلجؤ إلى التأويل وإعادة التفسير، والانتقائية، ولكنه أفضل المتاح حالياً وفي المستقبل القريب والبعيد.هذا أفضل الحلول لنستطيع أن نتعايش مع العالم. فلا أدري كيف سيتم قبولُ من يكررون صباحاً ومساءً نصوصاً دينية مقدسة تنضح بكره الآخر غير المسلم ومعاداته في مجتمع ليس مسلماً!
كم في تراثنا الضخم من تفاسير وفهوم ومذاهب ومقولات، نحتاج إلى أن نتعامل معها على ضوء القاعدة التي تقول( اذكروا محاسن موتاكم).
لدي قناعة تامة أن من الحكمة الآن التركيز على تلقين الناس مذهب (الإرجاء) في الإيمان.فالفكر السلفي -بمعناه المعاصر- يحمل في بنيته نزعة تكفيرية إقصائية. ونحن نحتاج اليوم إلى بعث وإحياء نزعة (الإرجاء) التي تجد لها مستندأ قوياً في نصوص القرآن والسنة ومقولات السلف.
إن إحياء مذهب الإرجاء اليوم بتنوع ألوان طيفه ومقولاته المتعددة هو أفضل الحلول. كالقول بـ”قصر مفهوم الإيمان على الاعتقاد القلبي فقط، وماعداه فهو كمال”، إلى آخر يرى أنه ” قاصر على الاعتقاد واللفظ /الإقرار”، إلى من يذهب إلى القول بأن “الإيمان المنجي في الآخرة يكفي فيه الاعتقاد مع الإقرار اللفظي مع أداء شيء من أعمال الإيمان يتحقق بها جنس العمل الذي يدخل به المسلم الجنة”. والأخيران مذهبان كانا واسعي الانتشار في العصور الأولى بين علماء وفقهاء الأمة. ونستطيع اليوم أن نجد له شاهداً قائماً في المجتمع الأندونيسي الذي يحمل في فهمه للدين نزعة (علمانية).
كما أن للإرجاء في تراثنا تجليات أخرى رائعة في أحكام تكفير المسلم: موانعه وشروطه، تنم عن تسامح الإسلام ورحابته.
الحقيقة التي لايمكن تجاهلها أن (تفعيل) الدين-حسب بعض أشياخي- في حياة المجتمعات، ورفع مستوى الشعور الديني، كفيل بأن يصل بنا إلى الكوارث التي نراها اليوم ماثلة أمامنا. غير أن إجراء عملية (خَصْيٍ) لفيروس الأفكار القابلة للانبعاث، عبر نشر مذهب(الإرجاء)، وتكثيف حضوره في الخطاب الديني والوعظي في المقام الأول، قد يقدم شيئاً مفيداً وجديداً. شريطة أن لاتكون الحكومات-التي ترى أن لديها مشكلة حقيقية تحتاج إلى علاج- هي الراعي المباشر لهذه الحملات. بل يجب أن تبقى بعيدة ترقب وتفسح المجال فقط وتزيل العقبات. أو على الأقل فقط أن تمنحه من الفرص ماتمنحه للآخرين.
قبل شهور قام مجموعة من شباب عاطلين عن العمل لايجدون ماينفقونه على أبنائهم وزوجاتهم بعد أن تركوا العمل في وظائف الحكومة لأنهم يرونها مؤسسات تابعة لحكم الطاغوت، ولأنهم يكفِّرون كل من يعمل في القطاع العسكري، لم يترددوا في السطو على مزرعة أحدهم وسرقة أغنامها لأنهم يعتبرونها غنائم مباحة لهم شرعاً.هذا لم يحدث في أماكن نائية.بل وقع هذا في بلدة لاتبعد عن مدينتي بريدة إلا100كم.
لم تهبط هذه القناعة عليهم من السماء. بل وجدوا مايسوغها في فتاوى وآراء وكتب تدرس ربما في المساجد. وتنشر في مواقع الإنترنت.تم توظيفها من قبل البعض، (وتفعيلها).
أحد الموقعين على فتوى ردتي عن الإسلام كان من طلابه من يرددون في مجالسهم أن عالم الحديث الراحل الألباني رحمه الله والرئيس الأمريكي كلينتون وجهان لعملة واحدة!. قامت بسبب هذه العبارة خصومات ونزاعات، بعد أن تناقل الناس هذه الكلمة التي تبعث الخوف في قلوب الكثيرين من تمدد هذا الفكر المخيف.
لاحل سوى حرية التعبير. فهي الكفيلة بتحجيم هذا السرطان المستشري. ورفع الوعي وتعزيز ثقافة التسامح التي تتمثل أولاً بقبول آراء الآخر المسلم فقهياً ومذهبياً وفكرياً.