منصور النقيدان
في العام 1995 قمت بزيارة إلى بلدة ‘’الحايط والحويِّط’’، وهي ‘’فدك’’، الواقعة شرق المدينة المنورة على طريق حائل. وكان مضيفنا أميرها محمد الجابر ممن صاهر قبيلة حرب، وهو من أهالي البلدة التي يقطنها غالبية ساحقة من السود، وهو سيدهم وصاحب الأمر النافذ فيهم، وله ابن شاب خلَفه في إدارة شؤون البلدة وتوابعها. وفي اجتماعي مع بعض من أهاليها من أبناء عمه سرد لي بعضهم قصص الإذلال المتكررة من قبل القاضي الذي كان يناديهم بـ ‘’العبيد’’، أثناء مراجعتهم له في مكتبه في المحكمة، وكم بدا لي غريباً وطريفاً وصفهم لقاضيهم بـالعِنْصْري’’بكسر العين’’، مصحوباً بالدعوات ألا يرده الله إليهم[1].
قبل ذلك بسبع سنوات وفي حفل زواج العام ,1989 سئل مفتي السعودية السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز عن حكم الشرع في منع الأعراف للتزاوج بين ‘’القبيلية’’ و’’الخضيرية’’، فأجاب بأن منع التزاوج بين عائلتين لا تنتسب إحداهما إلى قبيلة أمر يخالف ما جاء به الإسلام من المساواة، وكانت إجابته مفاجئة وصادمة لبعض من العلماء الحاضرين الذين كتموا امتعاضهم ومنعتهم مكانة الشيخ وهيبته من التعليق برأي مخالف، مكتفين بتوبيخ مدير الندوة الذي كان بإمكانه أن يتجاوز السؤال إلى غيره [2]، وابن باز نفسه لم يكن من ذوي الأصول القبلية.
ومن اطلع على نص الحكم القضائي بالتفريق بين التيماني وزوجته [3[ سيرى أن القاضي ذكر مراراً الحديث عن الموالي أي الأحرار الذين أعتقوا بعد عبودية. إن وصف كثير من ذوي الأصول القبلية لغيرهم بـ ‘’العبيد’’ إنما يقصدون به كل من لا يُعرف له قبيلة أومن لا يعترف النسابون منهم بنسبه القبلي، سواءٌ كان أسود البشرة أو كان في وسامة ليوناردو ديكابريو، وإن كانوا أحياناً يتفننون بذكر أوصاف مرادفة لا أكثر مثل الصُّاَّع، أو الصفار، أوالخضيرية [4]. أما حضر الحجاز مثلاً فهم عندهم عن بكرة أبيهم طرش بحر و’’بقايا حجاج [4]’’. فإذن، ليس’’العبد’’ حسب تصورهم هو من كان تحت نير العبودية، فإن تجارة الرق قد ولت منذ أوائل الستينات بمواثيق دولية بعد ممانعة طويلة كانت تشكل دائماً أزمة في المفاوضات بين السعودية وممثلي القناصل الأوروبية في جدة [5]، كما أن’’العبد’’ عندهم لا يخص من كان متحدراً من آباء نالوا حريتهم بعد استرقاق، أو أعتقهم سادتهم وأصبحوا موالي لمن أعتقهم، سواءٌ كانوا من ذوي الأصول الأفريقية ممن جلبوا من الحبشة مثلاً وهم المفضلون فيما مضى لملاحتهم وحلاوة نسائهم، أومن غيرهم من الترك والشركس والبلوش وهم نادرون للغاية في الجزيرة العربية حيث اقتصر الرقيق من هذه الفئة في العصور المتأخرة على الإناث في قصور الملوك والأمراء. بعد انحسار الحروب التوسعية ‘’الجهاد’’ التي خاضها المسلمون في سابق عهدهم، ومع نضوب مصدر الاسترقاق الشرعي، ازدهرت في القرون المتأخرة عصابات الاتجار بالبشر التي كانت تعمد إلى الحرائر فتنتزعهن من أحضان أهاليهن، ثم يُبَعْنَ ويُرسلْن إلى بقاع بعيدة. ومن يقرأ رواية سيف الإسلام بن سعود’’قلب من بنقلان’’ وهي تحكي تفاصيل اختطاف والدته من بلوشستان وقصة الأحزان التي رافقتها حتى استقرت أخيراً في قصر الملك سعود بحدود عام ,1947 فسوف يتعرف بشكل أكثر تفصيلاً على ما ذكرتُه [7])6(. وقد كان بعضٌ من بنات قبائل الجزيرة العربية حتى منتصف القرن العشرين إماءً، بعد اختطافهن وبيعِهن صغيراتٍ إثر غارات بين القبائل، أو بأيدي اللصوص، ولسنوات طويلة اعتقد أهاليهن موتهن، ومنهم من استدلوا في النهاية على أماكنهن، وحُكيَ لي أن واحدة منهن كان إخوانها يزورونها وهي جارية عند وجيه من أهالي الرياض. ما تقدم ذكره سيسهل علينا فهمَ لماذا اختلف اثنان من كبار علماء نجد في بداية الثلاثينات في مسألة قيام السيد بعقد زواج من جاريته التي جلبت من الشام إذا كان ينوي معاشرتها في حال نشأت شبهة الاختطاف، وتحكيمِهِما لرئيس قضاة الحجاز عبدالله بن بليهد للفصل بينهما [8]، أما حبس الجارية المشكوك في حريتها لبيعها بربح كما تباع البقرة، أو إبقاؤها في الخدمة سنوات طويلة تأكلها الغربة والهوان، فتلك لم تكن مصدر حرجٍ عندهم. ووصف ‘’العبيد’’ عند من أسلفنا يشمل حتى من عُرِف أصله من أبناء الشعوب المهاجرين من شرق آسيا أو جنوب إيران مثل البلوش والأتراك أو الألبان والمصريين الذين استوطنوا نجداً بعد الحملات المصرية على نجد ابتداء من عام ,1813 ومن رغب في استيطان نجد ممن كانت قوافلهم تمر بنجد من حجاج البصرة وبغداد مثلاً، أومن استمر تواجدهم بعد ذلك من جنود الحاميات التركية في القصيم وغيره حتى ,1902 حيث اندمجوا مع ثقافة وتقاليد وأعراف أهالي نجد حتى أصبح من العسير تمييزهم ممن عداهم، أما من كان حديث العهد وعجمة لسانه بادية عليه، فغالباً يستمر وصفهم بالدراويش أو العجم كما كان الحال مع الزاهد الشهير عبدالكريم الدرويش، وكذلك مع الهنود الحجاج الذين يستقرون في نجد ويستوطنونها، ويبدأ وصف العجم بالتلاشي تدريجياً بقدر ما يندمج أبناؤهم في المجتمع الجديد. وليس صحيحاً ما ذكره عبدالله المطلق[9] من أن مجهولي القبائل في نجد ليسوا إلا قتلة فروا خشية الثأر وأخفوا أنسابهم الحقيقية حتى اندثرت، وهو تملُّقٌ منه ومغالطة، أقنعت كثيرٌ من العوائل أنفسَها بها فراراً من الإفصاح عن أصولها الحقيقية، الأمر الذي لا يأنف منه سكان السواحل في الحجاز والخليج، غافلين عن أن إقرارهم بذلك لا يعني إلا أنهم نسل مجرمين لا يختلفون عن أولئك الذين استوطنوا أستراليا قبل أربعة قرون!
والذي يتصفح معظم ما كتبه المؤرخون النجديون وتراجم الاعلام منهم، سيجد أن بعضهم ينسب من لا يعرف قبيلته إلى الموالي، والمولى-كما سبق- من أعتق بعد عبودية وعرف مولاه الذي عتق عليه، والمدهش أن مؤرخاً مثل إبراهيم بن عبيد في تاريخه’’تذكرة أولي النهى والعرفان’’ لا يبخل بإسباغ صفة الموالي على كثير ممن ترجم لهم من الأعلام ، ولكنه استثنى عائلته من الموالي في ترجمته لوالده واثنين من أخوته[9].
[2] في شتاء 1989 أخبرني بها اثنان ممن حضرها، وكان مدير الندوة عبدالعزيز السدحان، وهذا الرأي لابن باز معروف وله فيه فتاوى منشورة
[3] راجع مقالنا ‘’المنبوذون’’ – صحيفة الوقت 8 ابريل/ نيسان .2007
[4] كثير من الذين لا ينتسبون إلى قبائل يعرِّفون أنفسهم بأنهم صفار أو صفافير أو خضيرية، وبعض منهم يأنف منها، وبعضهم يصفون أنفسهم بالموالي.
[5] أي مهاجرون قادمون من وراء البحار، مع الأسف هذا الوصف شتيمة يطلقها النجديون – حتى من غير القبليين – على أهل الحجاز، وهي عنصرية مناطقية سأعرض لها في المقال القادم.
[6]انظر الذكرى العربية للملكة السعودية/ جون فيلبي ص ,246 ومجموع فتاوى محمد بن إبراهيم فتوى 2610-.2611
[7] من منشورات دار الفارابي.
[8] روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد/ القاضي
[9] عضو هيئة كبار العلماء- الجزء الثالث من برنامج عن الكفاءة في النسب/ تليفزيون الإخبارية 15-4-2007
[01] تذكرة أولي النهى والعرفان/ابن عبيد، وانظر مسائل من تاريخ الجزيرة العربية/ ابن عقيل الظاهري ص88