شاهدت مرة برنامجاً وثائقياً يحكي قصة كفاح مسلمي إحدى الجمهوريات الإسلامية فترة الحكم السوفيتي في المحافظة على إرثهم الديني وتلقينه لأبنائهم في أجواء من السرية والتكتم بلغت حداً من الحذر جعلهم يعقدون مجالس القرآن في سراديب تحت الأرض.
إن الإصرار الذي أبداه هؤلاء هو ما يجب أن نتصف به اليوم لحماية أبنائنا من الانزلاق إلى اعتناق أفكار التطرف، مع فارق بسيط هو أن نوجد مفهومنا الخاص للتدين المغاير لكل ما يجري تلقينه عبر محاضن التربية والتعليم وعبر وسائل الإعلام التي تضخ أفكاراً حاضنة للحشاشين من الغلاة، وما لم تكن تلك التربية الموازية نابعة من البيت ومن الوالدين ومن الأم خصوصا وهي دائماً أساس المحافظة على الجرثومة الأساسية الحية للأخلاق، فإن كل تلك الجهود ستكون هباءً منثوراً.
اشرحوا لهم أنهم سيكونون مسلمين صالحين إذا اكتفوا بإعلانهم الإيمان بالله وبالرسول محمد، وكانوا ملتزمين بالقانون، ومواطنين صالحين، واضربوا لهم مثلاً بمؤمن آل فرعون الذي امتدحه القرآن وكان يكتم إيمانه العميق بالله، وأخبروهم عن النجاشي الذي بقي ملكاً على الحبشة مكتفياً بإيمانه الباطني بصدق محمد والتزامه بالمسيحية في الوقت نفسه، وأن الرسول بعد ست سنوات من استقراره في المدينة حينما بلغه موت النجاشي شهد له بالإيمان وأمر أصحابه بأن يقوموا معه بأداء الصلاة على روحه.
إذا سألوكم عن الأعمال الصالحة فأخبروهم أن الأعمال الصالحة ليست هي فقط الصلاة والدعاء، وأن العظماء الذين عرفتهم البشرية وأحدثوا أكبر الثورات في تاريخها ودفعوا بها قدماً إلى التحضر سيشكرهم الله مهما كانت دياناتهم التي يؤمنون بها، اجعلوهم يتساءلون: إذا كان الله قد أخذ بالاعتبار المواقف النبيلة لأبي طالب مع ابن أخيه محمد، فإنه أرحم من أن يتجاهل كل التضحيات التي قام بها فلاسفة التنوير، ودعاة حقوق الإنسان، وأن رسالتهم مكملة للأخلاق التي جاء بها محمد.
أخبروهم أن الإفساد في الطبيعة وانتهاك نظام البيئة هو أكبر عند الله من قبلة بين عاشقين ملتاعين، وأن شيخاً بمشلحه وعمامته يحذر من الانحلال الأخلاقي، قد يكون معول فساد أكبر حينما يشرع للاحتيال وأكل أموال الناس على اسم الله، لقنوهم إن عبادة ستين سنة من صلاة وصيام لاتساوي عند الله شيئاً حينما يهرق دم بريء مهما كان لونه أو ديانته، أخبروهم أن الله يغفر كل المعاصي الشخصية لأنها تخصه وحده، ولكنه سيحول بين الخاطئين في حق البشر وبين الجنة إذا كانوا قد ظلموا إنساناً أو تسببوا بشقائه، إذا كانوا قد ضايقوا إنساناً عند إشارة المرور لأنه مسيحي، إذا شعروا بالنشوة لقتل طفل أو سيدة لأنها يهودية، إذا شعروا بالاسترخاء لانتهاك حق إنسان لا يعتنق مذهبهم، إذا تواطئوا على الصمت عن إعلان احتجاجهم لظلم يحيق بإنسان متدين لأنه أطال لحيته، قولوا لهم إن نكتة سوداء ترتسم على صفائح قلوبهم إذا استقبلوا بالبرود أنباء الكوارث التي تكتسح مجتمعات تختلف عنهم في الجنس والديانة، ركزوا على تلقينهم منذ الصغر بأننا قد نكون أشخاصاً صالحين حينما نعيش على الفضيلة، ولكن تغافلنا عن مأساة عائلة معوزة بين ظهرانينا تطوي على الجوع، وعاملِ منقوص الحقوق من قبل كفيله، هو خزي يشابه صمتنا عن بيت دعارة في طرف الحي، وأن الإدمان على الخمور وتصنيع البائسين للعرق في بيوتهم، ليس أكثر خطورة من الإدمان على خطب وحصص مدرسية تغذيهم على الكراهية لكل من يختلف عنهم في الفكر والدين، وتخلق منهم قنابل موقوتة تجعل ابن الأخت يقتل خاله ويغدر بجاره، ويسرق أبناء حيه.
أخبروهم أن عالمنا الأرضي مع كل هذا التنوع، أجمل من جنة ينعق فيها البوم وتنسج فيها العناكب خيوطها، وتتعالى فيها الصيحات الشهوانية لمجرم يتمطى بين سبعين غانية ويتأبط رشاشه، أخبروهم أن وثيقة المدينة التي وقعها الرسول مع كل الطوائف لحظة وصوله يثرب تعكس ذلك التنوع الذي لانراه اليوم في بلادنا، ولأن بعض مجتمعاتنا مقفرة من ذلك التنوع لأسباب اجتماعية أو دينية فعلينا إخبارهم أن ذلك يدق ناقوس الخطر، اضربوا لهم أمثلة من عالم الأحياء البحرية وكيف أن نجمة البحر تحافظ على الاستقرار في بيئة تكفل الحياة لأنواع أخرى وتعزز الوفرة في أنواعها، وأن إزالته يتسبب بأن يستأسد بلح البحر المنافس الأكبر بالقضاء على تلك الكائنات وإحداث الإقصاء التنافسي.
حصنوهم ضد التطرف والانغلاق بتخصيص أوقات يشاهدون فيها برامج وثائقية تحكي التنوع الذي تزخر به البشرية في الأديان والعقائد الغريبة، اغرسوا في نفوسهم حقيقة أن البشرية عن بكرة أبيها تبحث عن الطمأنينة والاستقرار الروحي عبر طرق متعددة، وأن أسعدهم هو أكثرهم انسجاماً مع البقية وأقدرهم على مد الجسور. لاتدفعوا قرشاً لبناء مسجد، فالرسول اكتفى بعريش كعريش أخيه موسى، بل استثمروا أموالكم في أبنائكم، وادخروا أموالكم لتعليمهم، وحين تقومون بالسفر فأقترح أن تكون وجهتكم إلى بلاد تدين غالبيتها بدين آخر، لها تقاليد وأعراف مغايرة عما نشأتم عليه، خذوهم معكم لزيارة الكنائس وأماكن العبادة ودعوهم يتأملون في وجوه المؤمنين والمؤمنات الذين يذرفون الدموع بقلوب منكسرة، كما يشرق شيخ بدمعته وهو يتلو سورة الرحمن في أودية مكة.
إنه لمن المحزن لي أن أرقب منذ سنوات مصير عوائل تكاد اليوم تنقرض لأن معظم أفرادها من الأصول والفروع قد قضوا في أعمال إرهابية. أبناؤنا ليسوا لنا. أبناؤنا أبناء الحياة. وكم هو عظيم عند الله، وكم هو معذب لضمائرنا أن نرتكب الخطيئة مرتين؛ بإقحامهم في حياة تصوغهم وحوشاً ومستذئبين، وبتكاسلنا مرة أخرى عن أن نقوم بالخطوة الأولى لانتشال الأجيال القادمة.