منصور النقيدان
قام أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة بتزويج مولاه سالم بن معقل من بنت أخيه فاطمة بنت الوليد ابنة خال معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي[1]، وحين صارع عمر سكرات الموت قال ”لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته[2]” لولا أن سالماً كان قد لقي حتفه قبل ذلك بعشر سنوات في حروب اليمامة التي عرفت بحروب الردة وهو لم يبلغ الثلاثين، وما يحملني على التأكيد على مثال سالم هو أن الاعتناء به بدأ في حياة الرسول (ص) في المدينة، واستمرار الحفاوة به حتى مرحلة متأخرة من عصر النبوة بعد استقرار الرسول سياسياً، وتضاؤلِ أهمية المستضعفين والسابقين من الموالي وغيرهم وتهميشهم، وبعد أن اعتنق الإسلام عدد كبير من صناديد قريش وسادات العرب.
شق سالمُ طريقه بصمت جامعاً بين العلم بالقرآن وصادقِ الإيمان وقوة الشخصية وسداد الرأي، وكانت شمائله تتهذب وملكاته تكتمل تحت عين الأرستقراطية القرشية ورعاية الرسول ومحبته له. وجاء انتقاده العلني لتجاوزات خالد بن الوليد في بني جذيمة وإسرافه في القتل شاهداً على قوة شخصيته ومرسخاً له مكانة لم يكن حتى لبعض كبار القرشيين من بني العاص بن وائل أن ينالوها، فضلاً عن عمَّار بن ياسر أو سلمان الفارسي[3].
أصهر سالم وهو الفارسي الأحمر في أكبر بيوت العرب مجداً ورفعة في الجاهلية، بيت ادخر له التاريخ صولجان الخلافة والملك، وقد عُهِدَ في بني أمية استدخال الأشخاص ذوي القدرات الفائقة وإلحاقهم نسباً بالبيت الأموي، وقصة أبي سفيان وادعاؤه أبوة زياد بن أبيه بعدما رأى إعجاب عمرَ به، وما قام به ابنه معاوية لاحقاً مع زياد يؤكد ذلك[4]. لقد شغب عمر في اللحظات الأخيرة من حياة الرسول على فكرة الوصية بالخلافة لمن بعده، إلا أنه بعد عشر سنوات من النضج قضاها في الخلافة، أرسى فيها أنظمة بقيت حتى اليوم دستوراً، وصارع ما استطاع ضد تأثير الأعاجم المكتسح، وبلغت به غيرته على بيضة العرب أن يستثني كفار قبائلهم من السبي والعبودية[5]، وكان مثقفاً ومحباً للمعرفة، دفعه فضوله المعرفي إلى أن يكون ندماؤه جمهرة من أبناء الأمم والملل ومنهم علماء يهود اعتنقوا الإسلام، ووجد فيهم خير تعويض عن تحذير الرسول له من القراءة في العهد القديم(التوراة) مكتفياً بسماع ما يروونه ومذاكرتهم[6].
إنني أزعم أن حس عمر السياسي وقدرته الفائقة على التنبؤ رشحته وهو صاحب المبادرات الجريئة أن يخطو خطوة يعيد بها صياغة مفهوم الحكم بعد السقيفة وفق رؤية جديدة تجعل أبناء فارس شركاء في الحكم، بعد أن حوت رقعة الإسلام قوميات متعددة، وقد كان للفرس من الموالي والأحرار في صدر الإسلام منزلة خاصة لم تكن لمن عداهم من الأفارقة وغيرهم الذين اندمجوا في الإسلام وقنعوا بما أوتوا، يشهد لذلك نصوص كثيرة تتحدث عن فضل أبناء فارس[7]، فهل كان سالم مولى أبي حذيفة مشروعاً سياسياً أجهض مبكراً، منح استثناءات تشريعية ودينية لم تعط لغيره حتى يكتمل؟.
أما لماذا لم يرشح عمر غير سالم فتلك مسألة لم تتضح لي وهي تحتاج زيادة بحث، ولكنها تكشف بجلاء أن علاقة عمر بالعجم والفرس خصوصا معقدة، ومثله خليق به أن يدرك – لو كُشفتْ له سجف الغيب – أن عنصرية من جاء بعده من بني أمية وجبروتهم، ما كان لها أن تحول دون طوفان فارس، وأن مواقف عمر الخشنة من غير العرب لم يكن سوى موقف أخلاقي نابع من خوف على الثقافة والهوية، عكسته رسالته إلى أبي عبيدة الثقفي قائد معركة الجسر.
إلا أن ما تقدم يؤكد لنا أن العرب على رغم عصبيتهم لنقاء أنسابهم، كانوا يولون الصفات الشخصية والنجابة والجدوى الاقتصادية السياسية المترتبة عليها أهمية بالغة يتضاءل أمامها هوس النقاء. فقد ذكرت عائشة زوج الرسول من أنواع الأنكحة عند العرب في الجاهلية نوعين كانا مستساغين عندهم، الأول أن تعمد إحدى حرائر العرب بإذن من زوجها إلى معاشرة أحد النبلاء طلباً للنجابة في النسل، وإذا جاء المولود ألحق بالزوج، ومثله أن تعاشر الحرة العربية عدداً من الرجال ثم تختار لمولودها أباً تعينه من بينهم ويلتزمه[8]. ومن نتاج هذين النكاحين من يبلغ مراتب السيادة في قومه من دون معرة، وإلى فترة قريبة لا تتجاوز السبعين عاماً كانت بعض قبائل المنطقة الجنوبية في السعودية تمنح ما يسمى (ابن ليلة) منزلة خاصة من التقدير والاحترام وتضرب المثل بشجاعته، وابن ليلة يكون فارساً من سلالة فارس اشتهر بشجاعته[9].
وفي المقابل فإن التعصب للعرب قد نجده عند مثل ابن تيمية الحراني الكردي وهو ليس عربياً حسب كل من ترجم لعلماء عائلته من معاصري أبيه ومعاصريه، وهو يذكر أن معتقد أهل السنة والجماعة أن جنس العرب أفضل من جنس العجم المسلمين، وأن من يفضلون بعض العجم على العرب هم من المنافقين المشكوك في صحة إسلامهم[10] وابن تيمية عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين، في فترة كان الحكم فيها والنفوذ للمماليك، ويبدو أن هذا الاستلاب عند الشيخ للعرب هو الذي دفع بعض متأخري الحنابلة لأن يدعوا له نسباً في قبيلة ”بني نمير” استناداً على إشارة خاطفة من مؤرخ معاصر، فلم يتصوروا أن تقوم دولة في قلب الصحراء على أسس دينية خضعت لها قبائل الجزيرة، تستمد معظم أفكارها من عالم غير عربي الأرومة، وهم في الآن نفسه ربما يأنفون من الإقرار بالنسب القبلي لعوائل تحتفظ بوثائق وشهادات قد تكون ممهورة بختم قضائهم المقدس، وتلك قصة أخرى.
[3] البداية والنهاية/ابن كثير
[4] طبقات ابن سعد، وانظر عند الطبري أحداث عام 44هجرية
[5] انظر الفتاوى الكبرى /ابن تيمية ج4 ص100
[6] مسند الإمام أحمد ، وانظر تاريخ الطبري، وقد كان كعب مرافقاً لعمر في أسفاره وتنبأ له بمقتله قبل أيام.
[7] أورد ابن تيمية مجموعة منها في اقتضاء الصراط المستقيم
[8] صحيح البخاري
[9] أكدها لي مثقف من منطقة جيزان وله رواية لم تنشر تتناول بالتفصيل ما أشرت إليه.
[10] مرجع سابق.