ثلاث مرات أصادفه وهو يعود منتصف الليل وبشته الأسود مطوي على ساعده، مرهقاً واجماً متكئاً على عصاه، يدفع نفسه نحو عتبة الدار بتثاقل، وأنا واقف أرمقه مرتدياً بيجامة النوم، كنت أعرف أنه قادم من الرياض بعد غياب يومين أو ثلاثة، ولا شيء وراء ذلك بعد أكثر من سنتين من رحيله وقبره يكاد يعمى علي، ثقب ما في جدار الصمت الذي أشاده طوال العقود الأربعة الأخيرة من حياته سمح بلمع خاطف ترك من الأسئلة أكثر مما كشف من حقائق كنا نجهلها طوال إقامته بيننا أ
دهشني أنه استطاع أن يفرض على كل من حوله سوراً من الصمت يحول دون الحديث عن أشخاص هم بضعة منه ويحملون اسمه اختار أن يسدل الستار عليهم وكأنهم لم يخلقوا، ومضى ولا أحد يرغب في الحديث عنهم احتراماً لذكراه، وحين حاولت قبل سنوات قليلة زحزحة بعض من الأقفال ارتسمت علامات الامتعاض وأشاح الجميع عني بوجوههم.
اكتمال الصورة في عالم الإنسان لا سبيل إليه، لست أعني الطموح إلى المثال والسعي للدفع بالواقع والتجربة إلى مستوى الأهداف والآمال، وإنما أعني صور الأشخاص من الملوك والمفكرين والأنبياء والمصلحين والقادة العظماء والأدباء، من المؤثرين في التاريخ ومن الأشخاص العاديين جداً، ولكنهم أيضاً المهمون جداً لأنهم جاؤوا في لحظة تاريخية وتوقفوا في نقطة محددة أقحمتهم رواق العظماء ونادي الأشخاص الأكثر إلهاماً وربما غموضاً عبر العصور، وقد يحالف الحظ أشخاصاً على هامش الحياة يخطون لأنفسهم سطراً واحداً في تاريخ الأمم كما وقع لبحيرا الراهب، أو لجويسر وزوجته اللذين تحدث معهما عبدالعزيز آل سعود في اللحظات التي سبقت استيلاءه على الرياض.
وكما يصدق هذا على الأفراد نجد تطبيقاته أيضاً في المجتمعات التي لم توثق تاريخها أو ضاع ما كتب عنها أو أن ما تم توثيقه ورصده لا يفي بالإجابة عن أسئلة أولئك المتطفلين الذين مع كل استفهام وإثارة إشكال يقضون مضاجع السدنة الذين أفنوا حيواتهم في الحفاظ على الرواية الرسمية، وهذا قد يصدق كثيراً على المؤسسات والكيانات الكبرى ممثلاً بقيادتها.
إذا تصفحنا الرسائل المتبادلة بين المفكر الفرنسي رومان رولان وغاندي وطاغور، فسوف نتفاجأ بأن المهاتما كان لديه صفات طفولية منها انبهاره بالاستعراضات والأبهة وإعجابه بموسوليني، وإذا أمعنا أكثر تكشفت لنا مشاعر الكره والاحتقار التي كان يختزنها شاعر الهند الأكبر طاغور وابن أخيه وبعض قادة المسلمين لغاندي، وإذا قرأتم سيرته الذاتية “تجربتي في البحث عن الحقيقة” وما كتبه توينبي في “دفاع عن الهند” فقد يصدمكم أن محرر الهند والذي تعاطف مع المنبوذين كان يتمتع بإيمان عميق بالطبقية مؤمناً بوجوب استمرارها وبقائها، وقد شاهدت العام الماضي فيلماً يحكي قصة غاندي مع أحد أبنائه وكيف أخفق هذا العظيم في أداء وظيفته كأب ونجح في تحرير أمة، اقترح عليكم الحصول على نسخة من فيلم “غاندي أبي”، فسوف ينال إعجابكم، وقد سببت بعض رسائل الأم تيريزا التي كشف عنها من قبل أرشيف الفاتيكان 2007صدمة كبرى وهي توثق شكوكها بالمسيح والحيرة التي اكتنفتها وتصور صراعها وعذابها مع الإيمان والجفاف الذي كان يلف حياتها في فترة طويلة من حياتها امتدت لعشرين عاماً منذ منتصف الخمسينيات وحتى نهاية السبعينات، وينقل محمد جابر الأنصاري في كتابه “صراع الأضداد” أن بعض المستشرقين الذين ربطتهم صداقة عميقة برائد النهضة محمد عبده لم يكتموا شكوكهم حول كونه مسلماً لأنهم لم يروه يطبق شيئاً من تعاليم الإسلام وفرائضه.
وقد حكى مارتن لوثر في رسائله ضد الكنيسة البابوية مختلف تفاصيل زيارته لروما والصدمة الكبيرة التي شعر بها وهو يرى مشاهد الفسق، ويذكر أن تمثال يوحنا الثامن قد أزيل من طريق البابوات لمحو آثار أكبر فضيحة للكنيسة في القرون الوسطى بعد أن اكتشفوا أن البابا – كما ذكر – كان امرأة أتقنت إخفاء حقيقتها لسنوات طويلة حتى وصلت إلى سدة البابوية، وقتلت بعد وضعها لمولود جاء من سفاح. اليوم تبدو هذه القصة عند المختصين بعيدة عن الأساطير. هي أمر جدير بالبحث.
وإذا كان يصدق في السياسة أن الكمال هو عدو الأشياء الجيدة، لأن الفشل هو الكمال الوحيد، فيبدو أن هذا أيضاً يصدق على الأفراد، لأن معظم الملهمين هم أولئك الذين لم تكتمل صورتهم بالنسبة إلينا، وهم أولئك الذين كانوا محظوظين إما لأنهم نجحوا في إخفاء الوجه المعتم من شخصياتهم، أو تمكنوا من تزيين تلك البقع السوداء في صورهم، أو كانوا محظوظين أكثر حينما أتيح لهم أن يحيطوا ذواتهم بهالة من المخلصين والأتباع الذين يوارون سوأتهم ويتكتمون عن زلاتهم، وقد يبلغ الهوس بالاتباع حداً يرون فيه سيئات متبوعيهم حسنات، ويدين الباحثون والمؤرخون وعلماء الاجتماع لهذا الصنف الأخير الذين ينقلون لنا الحقائق والأحداث خاماً من دون فلترة، ويفصحون للتاريخ بكل ما رأوا وسمعوا من دون رقابة ذاتية على ما يحكونه.
الوعي بأهمية الرقابة على التاريخ وحتى المحكي والشفاهي منه هو أمر موغول في القدم، فقد كان عمر بن الخطاب يشدد على أن يأتي بعض الرواة من الصحابة مثل أبي هريرة بشاهدين يؤكدان روايته. ليس كله حرصاً على التثبت بقدر ما هو حرص أيضاً على فرض كونترول على مصادر الرواية ذات الطبيعة الخاصة والحساسة.
قبل أربع عشرة سنة قام ضابط تحقيق باطلاع أحد الموقوفين على تسجيل فيديو لشيخه وهو يعلن توبته في الشهور الثلاثة الأولى من إيقافه واعتذاره عن كل المواقف والخطب والمحاضرات التي أوصلته وعشرات من مريديه إلى الزنازين، ولكن الشيخ أقنع نفسه وأتباعه سنوات السجن وخارجه بكل تلك القصائد والمديح عن ثباته وشجاعته وتفضيله السجن على الحرية في سبيل أفكاره في الوقت الذي كان فيه ينتظر بفارغ الصبر خبر اطلاقه صباح كل يوم، وبعد اطلاق سراح ذلك التابع جعل يقص بحذر لبعض المقربين إليه ما شاهده في ذلك التسجيل، تسربت القصة بعدها بأيام فتدارك الأتباع الفضيحة، واختار صاحبنا أن يلزم الصمت بعدها ويبتلع لسانه.
قد نبدو لؤماء ونحن نتشفى برواية هذه الحادثة وتلمع عيوننا بالشماتة ونحن نستمتع بسماعها أو إعادة حكايتها لللآخرين، ولكن تجاربنا وسيرنا الذاتية المعتمة تؤكد أننا جميعاً نجري حواراً داخلياً لحظتها عن ماذا لو كشفنا نحن أيضاً؟ وهنا قد تبدو قسوتنا غير مبررة. قد يفسر لنا هذا ما حصل قبل أسابيع مع قائد شرطة طهران المسؤول عن محاربة الدعاة حينما ضبط عارياً مع ست عاهرات، فهؤلاء دائماً ما يكونون أشبه بالمقارمين على نجاتهم، وهنا تكمن المتعة، تماماً كما كتب أحد محللي النيوزويك الأمريكية عن عمدة نيويورك بعد تورطه مع شبكة بغايا ملمحاً بخبث إلى أن العمدة ربما كان يضمر رغبة عارمة بالإيقاع به.
إن جزءاً من متعتنا بهذه الفضائح هو شعور غامض بالنصر وابتهاج جذل بفسحة من الأجل حالفنا فيها الحظ. لقد عرفت رجلاً كان مهووساً بالستر، فقد كان يأمر نساءه بأن يلبسن العباءة ويضعن الغطاء على رؤوسهن داخل الدار حينما تحتاج الواحدة منهم إلى الخروج إلى الحوش خشية أن يصادف ذلك لحظة تلصص من قبل الجيران عبر النوافذ، ولكنه ضبط بعد فترة من قبل سبعة من أصحابه شاهدوه وهو في لحظة حميمة مع مراهق كان الرجل فيها يقوم بدور الأنثى.
إننا نتلمظ حينما تلوح في الأفق أمارات فضيحة ونكون قساة على أشباهنا لأننا نقول في أنفسنا: همم! مهما نكن ملطخين فإننا على الأقل نكفر عن أخطائنا بهذه الحماسة. وفي منتديات الإنترنت نجد أن أكثر الكتابات تطرفاً وإقذاعاً في القضايا الاجتماعية والفكرية هي تلك التي تصدر من أشخاص ليسوا أتقياء، بل ربما كانوا مساهمين في حياتهم العملية في رواج الرذيلة، ولهذا نراهم حينما يقررون الإفصاح عن هوياتهم وكشف أسمائهم الحقيقية يؤكدون على فكرة أنهم ليسوا متدينين ولكنهم غيورون على الدين.
حينما كنت في سن الثانية عشرة تقريباً أذاعت وزارة الداخلية بياناً عن إعدام امرأة وعشيقها كانا قد تشاركا بقتل رضيعها الذي ولد من سفاح. كانت من عائلة معروفة واحدى قريباتي تسكن قريباً من منزلها، ولكنني حتى اليوم لم أعرف من هي العائلة ولا تفاصيل ما حدث فلم يكن أحد يرغب بالحديث، كانوا يدعون لها بالمغفرة ثم طواها النسيان، ولكن في أوائل التسعينيات كانت مغامرات إحدى الفتيات وجرأتها حديث الناس في بلدتي، وكان الهذر عن صداماتها مع رجال الحسبة فاكهتنا. واحد من أعدائها نذر نفسه للقضاء عليها، فكانت هي هاجسه وهوسه، وقد كان محظوظاً لأنه كان هو الأكثر تلامساً جسدياً معها، فقد كان يهيئ جواً من الشد والاحتقان يفضي بعدها إلى عراك معها بالأيدي في وسط السوق. إن جزءاً من هوسنا المرضي بالفضيلة قد يعود إلى كوننا تحت ضغط القيم التي نؤمن بها والمثل التي نطمح إليها ونلهج بها ليل نهار، في الوقت نفسه الذي نكون والغين في أوحال المتع والمحرمات، فتظهر تلك الأعراض بممارسات سادية تقرض أرواحنا وتزيدنا سقماً، كمن يروي ظمأه من ماء البحر.
ثمة أشخاص منحهم التاريخ الخلود لأنهم في ومضة من ومضاته لمع برقه وأضاء الفلاش وهم يجسدون لحظتها النبل أو الوفاء أو الشجاعة والتضحية والإخلاص لأفكارهم، أما كيف كانوا قبلها وما الذي عملوه بعدها فقد بقي مخفياً أو عسير المنال أو مجهولاً تماماً. وعلى أولئك المغرمين باكتمال الصورة أن يحفروا ويسائلوا ويقلبوا الوثائق ويحفلوا بالكلمة العابرة والإشارة الخاطفة.
بعض الشخصيات تحتفظ بسحرها الأخاذ وتأثيرها على أتباعها حتى بعد أن تنكشف تلك النقاط السوداء، وهذا ليس غريباً فحتى الطغاة والسفاحون لهم ألقهم، وتبقى بعض الشخصيات مكروهة أو منبوذة حتى بعد أن يتكشف الوجه المضيء والصفات الخيِّرة فيها. قد يكون تفسير ذلك هو أن البشر لا يمكن لهم أن يعيشوا من دون أساطير تلهمهم في أوقات الضياع وتواسيهم في اللحظات الحزينة وتربت على أكتافهم ساعات اليأس. وهذا يعني أيضاً أن الحقائق ليست محبذة في أحوال كثيرة، فالحقائق قد تفسد متعة الحياة.
4/5/2005