في يونيو 2007م كنت ضمن ثلاثة عشر صحفياً وإعلامياً قدموا من دول عربية وخليجية للمشاركة في دورة تعليمية في صقلية الإيطالية عن دور وسائل الإعلام في ترسيخ ثقافة احترام القانون نظمه مركز الديمقراطية والمجتمع المدني الذي ترعاه وتموله جامعة جورج تاون، كان المحاضرون المدربون ما بين أستاذ في القانون ورئيس تحرير وسياسي ونائب في البرلمان واثنين من منتجي الأفلام والبرامج الترفيهية، وصاحب دار نشر.
خمسة أيام تعرفنا فيها على تجارب مؤثرة في مكافحة الجريمة المنظمة والفساد من جنوب أوروبا ومن أمريكا الجنوبية والشرق الأقصى، وكانت تجربة الصقليين المدهشة في محاربة عصابات المافيا والقضاء عليها أمراً يبعث الإعجاب والدهشة وأمراً فوق ذلك. كان شيئاً ملهماً.
“ولدت في كوروليوني منبع المافيا وطوال ثلاثة عشر عاماً هي سنوات دراستي لم أسمع عن المافيا، الجميع لم يكونوا يتحدثون عن المافيا، مرة ذكرت المافيا فاشتكى مدير المدرسة وهو رجل دين تقي إلى أهلي وطلب منهم تحذيري من الحديث عن شيء غير موجود، لم يكن أعضاء المافيا يتجاوز عددهم الخمسمائة ولكنهم استطاعوا أن يسكتوا الملايين، الصحف والتلفزيون ورجال الدين، الجميع كانوا يتحاشون الحديث عنهم”. هكذا بدأ أولوكا أورلاندو عمدة باليرمو عاصمة صقلية وأستاذ الفلسفة والمحامي وعضو البرلمان الأوروبي محاضرته.
بدأت القصة في مواجهة المافيا منذ عقود طويلة تزيد على الستين عاماً ولكن معظم الأصوات قد اسكتت وتم القضاء عليها بالقتل والاغتيالات، وفي سن الرابعة عشرة قابل أورلاندو رجل دين بروتستانتي في كنيسة كاثوليكية كان هو رجل الدين الوحيد الذي تحدث إليه عن المافيا أطلعه على مقال كتب منذ ستين عاما عن العصابات الصقلية، وسأل القس الكاثوليكي عما يتحدث عنه المقال ولكن الأخير تجاهل كل ذلك.
التحول الكبير كان بعد مقتل اثنين من القضاة الذين اختاروا مواجهة الجريمة عام 1992م وقتل معهم خمسة من حراسهم، بدأت الأمهات بوضع الشراشف على النوافذ والبلكونات إعلاناً صامتاً عن الرفض والاحتجاج، بدأ الناس بمسيرات طويلة للتعبير عن رفضهم لجرائم المافيا، في تلك الفترة كان عمدة باليرمو الأسبق تحت سيطرة المافيا، وكانت الصحف لا تسمح بالحديث عنها.
وعرض علينا جيوفاني بيبي رئيس تحرير صحيفة صقلية وهي أكبر الصحف عن مبادرة صحيفته بنشر ملحق “صحافة قاعة الصف” الذي خصصه لطلاب المدارس ليكتبوا قصص آبائهم من رجالات المافيا الذين يقضون أحكامهم خلف القضبان، وكتبوا عن معاناة زملائهم من الطلاب الفقراء في الصف الذين أجبر الفقر عوائلهم على دفعهم للعمل مساء. شجعت الصحيفة طلاب المدارس على القيام بتحقيقات صحفية شجاعة تفضح أعمال المافيا وتكشف أسرارهم التي لا يمكن أن ينشرها إلا أقرب الناس إليهم. وبعد أن كانت أرقام توزيع الصحيفة ترتفع مع كل ملحق يكتبه الطلاب حول جرائم المافيا كانت الدائرة تضيف على قادة العصابات الذين وجدوا حرجاً أخلاقياً مضاعفاً تجاه أولئك الأبطال الصغار الذين كتبوا بأسمائهم الصريحة وأسماء عوائلهم.
كان للغضب الشعبي العارم لقتل اثنين من أكبر القضاة من القوة والتأثير حداً لم تتمكن إزاءه الصحافة والإعلام من تجاهل طوفانه، فاستضافت البرنامج التلفزيونية أناساً عاديين ليتحدثوا عن مشاعرهم ويعلنوا رفضهم ومحاربتهم، يقول جيوفاني: مرة حاءت امرأة وقالت إنها تريد الإبلاغ عن جريمة لدى الشرطة ولكنها خائفة، فنصحتها بأن تعلن ذلك في التلفزيون ليشاهدها الناس فهو حماية لها، ظهرت السيدة على برنامج شعبي وتحدثت إلى الملايين الذين شاركوها الموقف، كانت شجاعة لأنها شعرت أنها ليست وحدها وليست معزولة. كان ذلك حماية لها.
تقول شقيقة القاضي فالكوني الذي اغتالته المافيا وهي الآن نائبة في البرلمان: لقد قامت الحكومة لاحقاً بمصادرة أموال قادة العصابة وكانت من ضمنها مبنى تحول إلى مدرسة باسم فالكوني، وكان المبنى يملكه قاتله. وكانت تلك رسالة للجميع.
إن الخطر الثقافي الأكبر الذي قامت به المافيا هو تحويرها للهوية وللقيم عبر تشويه معاني الشرف، فكانوا يقتلون باسم الشرف ويسرقون باسم الشرف، وفي مداخلته أكد رئيس رابطة الإذاعة والتلفزيون الإيطالية أندريا سكورزاتي أن فيلم العراب أساء لثقافة الصقليين، لقد غرس قيماً مشوهة لدى النشء الصقلي الذين تأثروا كثيراً بالدعاية السيئة لهذا الفيلم، كانت خلاصة الرسالة التي فهموها أن المافيا عصابات إجرامية منظمة و”لكنهم” شرفاء ولديهم قيم ونبالة.
كان هناك برامج وأفلام تحكي بطولات رجال الشرطة الذين وقفوا ضد الجريمة المنظمة، كانت تحمل رسالة إيجابية وبناءة ولكنها أخفقت في إعطاء دعاية مضادة لفيلم العراب، لأنها كانت أعمالاً أنتجها مثقفون نخبويون فلم تلق أي صدى أو نجاح اجتماعي وخصوصاً فئة الشباب، وكان هناك أعمال أعطت صورة غير واقعية عن شرف رجل الشرطة، ذاك الذي يعيش متوحداً ونافراً عن محيطه لكي يحقق العدالة. لاحقاً استطاع المنتجون التوصل إلى إنتاج برامج قريبة جداً من الجمهور وشاركت فيها كل شرائح المجتمع يحكون تجاربهم وجهودهم ضد المافيا. كما أنتجت أفلاماً ناجحة لها جماهيرية كبيرة.
بعد عملية اغتيال فاشلة لقاض آخر بلغم ذهب ضحيته امرأة وطفلها وجد المناضلون الفرصة ليبينوا للناس أن هذه العصابات لا تملك الشرف لأنها تقتل النساء والأطفال، كان لدى الصقليين مثل يقول: “لا أحد يقتل من دون ذنب” لكن هذه الجريمة أكدت للجمهور أكذوبة الشرف وأنهم لن يردعهم رادع عن قتل الأبرياء.
كانت المافيا تلقى الدعم من أشخاص يتمتعون بنزاهة وقبول اجتماعي ولكنهم لا يرون ولا يسمعون ولا يتحدثون، وكانت خطوة رائعة من كاردينال باليرمو بدعوته البابا عام 1985م لزيارة المدينة لإعطاء دعم أخلاقي وروحي للنضال ضد الجريمة. لقد انشغلت الكنيسة طوال عقود بحرب الشيوعيين وتجنبت الحديث عن الفساد والمافيا، وحينما بدأ العمدة أورلاندو نشاطه هاجمته أكثر الصحف في إيطاليا ووصفته بالكذب لأنه يتحدث عن شيء غير موجود، ومرة كتبت إحدى الصحف أنه “فقط أولئك الذين يبحثون عن الشهرة والأضواء هم الذين يتحدثون عن وجود مافيا في صقلية، وعن شيء لا حقيقة له”. في البداية كان الدعم يأتي فقط لأورلاندو من الإعلام الأجنبي في الوقت الذي صمتت فيه الوسائل المحلية، وبينما كانت البي بي سي البريطانية تجري تحقيقاتها في صقلية عن عمالة الأطفال وانتشار البطالة، كانت واسائل الإعلام الإيطالية تلوذ بالصمت، ولكن الأمر تغير مع الأيام.
هكذا كان الحال عليه في البدايات ولكن الإعلام والصحافة منذ 1992م وهي الوسائل الأكثر تأثيراً في الحرب ضد المافيا، وحين بدأت المحاكمات لكبار قادة العصابات في 1996م كان الصقليون الشرفاء يجنون ثمار معركتهم في ترسيخ ثقافة احترام القانون، إنها معركة شاركت فيها كل شرائح المجتمع وفئاته، حتى منتجو البرامج الترفيهية.
يقول عمدة باليرمو حينما بدأنا بمحاكمات قادة العصابات في 1996تظاهر ألفان أمام المحكمة احتجاجاً على فقد وظائفهم التي كانت توفرها لهم مشاريع المافيا، وقفت أمامهم وقلت لهم: عليكم أن تتركوا المحاكمات تأخذ مسارها ولن يمضي عام إلا وقد عالجنا مشاكلهم وإلا لن أقف معكم ولن أدعمكم. وقد تحقق ما كنا نأمله.
لقد كانت المافيا تربط أعضاءها بنظام اجتماعي قائم على التكافل ولكن الصقليين الشرفاء استطاعوا تحطيمه بالسعي لإيجاد الفرصة وتنمية القيم النبيلة واحترام سيادة القانون وإحلالها مكان التشويه الذي تعرضت له القيم الصقلية. كانت البداية من البيت ومن الأم والعائلة. لقد أثبتت المافيا أنها هي العدو الحقيقي للأخلاق والعقيدة الكاثوليكية، تماماً كما كانت عصابات شمال أيرلندا هي العدو الحقيقي للمسيحيين الإيرلنديين.
ذات مرة قبضت الشرطة على قائد عصابة فحاول أمام وسائل الإعلام والمصورين أن يظهر وهو يحمل الكتاب المقدس بين يديه. كل ذلك انتهى اليوم.
يقول أورلاندو: في البدء كانت الصعوبات تحف بنا من كل مكان فكانت المافيا تخوض حربها بطرق أخرى: صحفي مقابل صحفي ورجل دين مقابل رجل دين، وفي ليلة مقتل القاضي فالكوني كنت في مكتبي فقالت لي السكرتيرة: لقد حل الليل فماذا ستفعل؟ بعدها بأيام اغتيل القاضي بورسلينو فقام الناس بتشكيل مسيرة بسلسلة طويلة وذهبوا إلى الشرطة وأعطوا أسماءهم وأسماء أطفالهم وقالوا: أبناؤنا مستعدون لحماية العمدة بأنفسهم. لقد كانت المافيا تخاف الأمهات والأطفال أكثر من الشرطة.
في تلك الأيام الخمسة قمن بجولة في أحياء باليرمو عاصمة صقلية وزرنا أماكن سياحية كانت سابقاً محرماً على رجال الشرطة دخولها. وذات ليلة ونحن نتسامر على ضفاف المتوسط في ذلك الساحل الساحر من فندق فيللا فيلج كانت نغمة جوال صديقي التي أخذت بلبي هي موسيقى الفيلم الأسطوري العراب الذي لا يزال ضمن قائمة الأفلام العشرة الأولى في تاريخ السينما العالمية. التقطت صورة أمام مدخل المسرح في المكان الذي اغتيل فيه مايكل في الجزء الثالث من العراب، اكتفيت أنا بالجلوس بينما اختار زميلي أن نسجل له مقطعاً تصويرياً بجواله وهو يطلق صرخة تشابه تلك التي لفظ بها مايكل أنفاسه الأخيرة.
20/7/2008