في يوليو 1914 كانت الطبيبة الأمريكية إليزابيث ديم مدعوة إلى حضور لقاء يجمع الإمام عبدالعزيز آل سعود بقريباته في قصره بالرياض، وحينما رآها الملك ومرافقتها جوزفين بعباءتيهما العربيتين رحب بهما وسأل إليزابيث” ماذا ستصنعين بهذه العباءة حينما تعودين إلى وطنك ، هل سترتدينها؟ قالت: نعم أحياناً. فقال: إذن سترقصين بها. قالت.لا. فأنا لاأذهب إلى الرقص .قال هذا صحيح فأنتِ متدينةٌ ومثلك لاتذهب إلى الرقص.ثم التفت إلى قريباته وقال : إنهن متدينات وهن مبشرات بدينهن وطيبات. إنهن يمضين معظم سنوات حياتهن في خدمة دينهن.
تقول السيدة ديم :لقد كان ذلك منه تعبيراً موفقاً، وكان ثناءً كبيراً.كماورد في كتاب( أطباء من أجل المملكة تأليف بول ارميردنغ ص101مطبعوعات دارة الملك عبدالعزيز1425ه)
وحين كانت الأمور عام 1929 تتجه نحو صدام لامناص منه، فقد كان الظفر محسوماً مسبقاً لأكثر الطرفين كراهية لتلك المواجهة، وجاءت النتائج وفقاً لحكمة الصينيين الأوائل، فقد انتصر عبدالعزيز لأنه خاض الحرب بحزن وأسى، ولكنه لم يكن وحده، فقد كان محفوفاً بنخبة من الحكماء المثقفين والمفكرين والتجار، منهم من رافقه منذ صباه ويفاعته، ومنهم من عرفه أميراً وفارساً فاتحاً، ومنهم أولئك الحكماء الذين تسامعوا به، فأحيا فيهم الأمل فحزموا أمتعتهم وودعوا أحبابهم ويمموا شطره، وانضموا تحت رايته مؤمنين به وبحلمه. تقاسموا على رعاية الجنين الذي عرف النور عام 1932، وكانت المملكة العربية السعودية، كنانة الإسلام وأمل المصلحين.
وعبر أجيال متعاقبة كان أولئك الفرسان وخلفاؤهم يتلون تعاويذهم وينفثون رقاهم ويدرؤون الشر عن حمى مملكة عبدالعزيز، يعملون بصمت لنسج صورة جميلة للسعوديين في أعين العالم من حولهم، ويظهروننا كما يجب، بشراً كغيرنا متسامحين محبين للخير مفعمين بالطيبة، وإذا بلغت الأمور الغاية في حرجها ضاعفوا جهودهم وحشدوا جموعهم واقتطعوا من أرواحهم مايكون وقوداً يزهر في الليالي المظلمة ويحول دون أن تنتصر قوى الشر، وأن يقع أسوأ غائب ينتظر : الإطباق، حين تعيث في المدينة ضباع الجهالة وغربان الظلام وسحب الفتاوى السوداء. إنهم الأبدال الذين يتوارثون تلك الحكمة التي فاه بها الملك المؤسس في تلك الجلسة العائلية الحميمة أمام طبيبتين مسيحيتين: التسامح مع أبناء الأديان والاعتراف بهم والاحترام الكبير لما يؤمنون به.
لقد كانت السعودية محظوظة في السنوات التي سبقت بداية تأسيسها والتي أعقبت قيامها لأن الملك عبدالعزيز كان يحتاج إلى نخبة متعلمة ومنفتحة وقادرة على إدارة شؤون بلاده المترامية الأطراف، ومؤهلة للتفاوض مع العالم، وكان محظوظاً أيضاً بنخبة من النجديين الذين كان لهم نظرة منفتحة، ممن هذبتهم الأسفار وإقامتهم الطويلة خارج الجزيرة في الشام ومصر والعراق والهند.
في السنوات الأخيرة بزغ جيل جديد من الحراس خاضوا مجال الصحافة والإعلام فحافظوا على التقاليد العريقة لأولئك الحكماء، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ظهر عشرات من الكتاب السعوديين الرائعين الذين وقفوا بشجاعة نادرة أمام الفتاوى السوداء، وسعوا لرسم صورة محببة للعالم عن بلدهم.
كانت الغربان السود تنعق في الأجواء وتنثر الكآبة، والضياع تعيث في الأزقة فساداً، والصالحون الغرباء قد أثقلهم اليأس وناء بهم حمله، والأرض تنقص من أطرافها، وفي السنوات الماضية انبجست أرض الجزيرة عن تلك الشموع التي تزهر بها الصحف عن فئة من الكتاب والمثقفين. ونحن اليوم نرى ثمار ذلك، فقد اتسعت دائرته حتى شملت فقهاء وأئمة وخطباء وبعض من يعملون في الحسبة. وفي الأسابيع الماضية شهدنا فصول النقاش الساخن الذي انخرط فيه قراء وخطباء المسجد الحرام حول قضايا كانت منذ عقود مسلّمات لايجوز الاقتراب منها، حول الفنون والموسيقى وعلاقة الجنسين ببعضهما ومسائل أخرى.
ليس عليكم أن تقلقوا بعد اليوم، فنحن لن نعود إلى الوراء، إن قدرنا أن نلتصق بالعالم من حولنا، أن ننخرط فيه وأن نتعامل معه، وأن نبادله الحب والثقة، ولكن علينا أن نساهم في تحقيق ذلك وتحويل الآمال والأحلام إلى واقع.
في الآونة الأخيرة نبغت فئة من الإسلاميين الحركيين، الذين بقوا طوال السنوات الماضية بمنأى عن كل ذلك الجدل الذي شهدته وسائل الإعلام على مايربو عن عقد، ولأنهم كانوا يتعاطون مع الفكر كما يفعل التاجر، ويوازنون بين خسارتهم المادية وبين أرباحهم، بين قبول الناس لهم، وبين نفرتهم منهم، فقد بقوا على قلق من رفقائهم الذين يداهنونهم ويخشون ألسنتهم وأقلامهم، ويظهرون لهم وجهاً وللآخرين وجهاً آخر. وقد تدافعوا اليوم نحو مايرونه غنائم وأنفالاً تقسم، ولكن مع هشاشة في قناعاتهم وبرود في إيمانهم بأفكارهم التي يجمجمون بها، وفي الوقت الذي كانت فئة من زملائهم من الفقهاء تتجشم الصعاب وتتحمل التشكيك والطعن والاتهام بقوا متفرجين، كما كانوا دائماً. واليوم أنتم ترون أن الفئة التي تقف مع الشجعان من الفقهاء ليسوا نظراءهم في الاختصاص والفكر، وإنما تيار من الكتاب الذين لايمكن وصفهم بالإسلاميين.
شهدت السعودية منذ 2005، طفرة في ارتفاع سقف الحريات الصحفية مقارنة بما سبقها، وبقيت فئة ممن يصفون أنفسهم اليوم ب (المتنورين) حتى اليوم مابين مد وجزر متربصة تتطلع إلى مايمكن أن يفضي الأمر إليه، وهم اليوم يريدون أن يغنموا من الجهتين: من المؤمن التقي الناسك صدق انتمائه إلى الدين وتقواه، ومن الليبرالي انفتاحه وتحرره وسعة أفقه ودنيويته، ولأن هذه الرغبة بقيت في خانة الأماني وحديث النفس، فإن الحقيقة أن هذه الفئة عالقة بين الضفتين، تحطمها المخاوف وتفتك بها الشكوك.
الخلاصة أن الأمر سيفضي بهذا الفريق إلى إحدى ثلاث: إما أن يرتدوا إلى مرابعهم الأولى ومحاضنهم ويندحروا إلى جحورهم، وإما أن ينسلخوا إلى دائرة أوسع شأن نظرائهم ممن يمرون بهذه المرحلة في عالم الفكر، وإما أن يبقوا مذبذبين يتعاملون مع الأفكار والديانة بعقلية التاجر ومنطق السوق، ولكن بلا طعم ولا مذاق ولا رائحة.
11/7/2010