إن في كل مجتمع متطرفين متعطشين للانقضاض على أعدائهم، في كل رقعة متعصبون، وفي كل ثقب مجرمون أو أشخاص لديهم القابلية لفعل الجرائم ولا يردعهم سوى العقاب والأنظمة الصارمة التي تحول دون الناس ودون الفوضى واستسهال التخريب
الشتائم وعبارات التفسيق والتكفير التي انهالت على رئيس تحرير صحيفة «الرياض» تركي السديري، ووزير الإعلام السابق محمد عبده يماني والوزير الحالي إياد أمين مدني مساء الأحد الماضي لم تكن حدثاً نادراً في أي تظاهرة ثقافية يتماس فيها إسلاميون متشددون بشخصيات إعلامية، ومفكرين وأدباء سعوديين أو أجانب، شكلوا دائماً هدفاً لفتاوى التكفير وخطب التفسيق، فكلنا يعلم أنه ما اجتمع هذان الفصيلان المتنافران تحت سقف واحد إلا توترت الأجواء وانتهت إلى ما آل إليه الأمر تلك الليلة، فقد شهدت الجنادرية من قبل ونواد أدبية سعودية مثل تلك المواجهات الكلامية، وملاسنات تصل حد التجريح والإهانة، وقد تعرض الأديب المصري محمد إبراهيم أبو سنة، ورئيس جمعية الثقافة والفنون في القصيم علي الخليفة للضرب قبل سبعة عشر عاماً، حيث حوصر الأخير عند سيارته، وانهالت عليه اللكمات والركلات، وها هو اليوم موجود بإمكان الجميع أن يسمع منه القصة الكاملة، فأنا قد سمعتها من أحد شهود العيان.
إن في كل مجتمع متطرفين متعطشين للانقضاض على أعدائهم، في كل رقعة متعصبون، وفي كل ثقب مجرمون أو أشخاص لديهم القابلية لفعل الجرائم ولا يردعهم سوى العقاب والأنظمة الصارمة التي تحول دون الناس ودون الفوضى واستسهال التخريب، ولو غابت عين الرقيب واختل النظام ساعة من نهار لرأى الجميع مالايمكن تصوره حتى في أرقى الديمقراطيات، والشواهد على ذلك كثيرة.
ماذا لو كان المشاركون في الندوة التي عقدت حول الإعلام والرقابة مساء الأحد الماضي بضعة إسلاميين لهم وثائق صوتية أو مكتوبة تثبت تورطهم في التحريض على سفك الدماء في العراق، اختاروا أن يتحدثوا عن التسامح والدعوة إلى جمع الكلمة، واتفق مجموعة من المخالفين لهم من كتاب الصحف وإصلاحيين على إحراجهم بتلك الوثائق واتهامهم بإثارة الفتن والتحريض على الجرائم- وهذا ما أتمنى دائماً أن ينذر أشخاص أنفسهم له- وأنه عليهم بدلاً من دعوة باردة إلى السلم والوئام أن يعتذروا عن تلك الآراء ويعلنوا خطأهم فكيف ستكون ردة فعل أولئك فضلاً عن أتباعهم؟ ولكن أحبابنا من إعلاميي الصحف لن يفعلوا ذلك لسببين، أولهما أنه من الندرة أن يحتشدوا جمعاً ويأتوا صفاً، لأن هذه ميزة إسلامية خالصة، كما أنها تتطلب خلفيات صوتية ، تتمتع بأصوات جهورية أوبرالية تزلزل قلوب الأعداء، ومع الأسف هذا شبه معدوم لديهم فليس فيهم المنشد ولا المؤذن الندي الصوت، ولا من كان له سابق تجربة في معارض السيارات، وثانياً شعورهم أن احتمال تعرضهم للاعتداء الجسدي وارد جداً، كما أن إحساساً يقبع في داخلهم أنهم في حال الاعتداء عليهم لن يجدوا يد العدالة التي تأخذ لهم حقهم، وأنهم ربما يكونون عرضة للتوبيخ بأنهم هم السبب في ضرب أنفسهم.
إن من يؤمن بأن من يخالفونه في الدين أو الطائفة أو الفكر يستحقون قطع الرقاب، وأن من يختلف معه في مسائل تفصيلية في الشريعة الإسلامية كافر أو مرتد أو روح شيطانية يجب القضاء عليها واستئصالها، ليس أهلاً أن يتحدث عن حرية النشر والصحافة.
رغم كل نقائص الصحافة السعودية وتواضع كفاءات أكثر قيادييها إلا أنني من واقع خبرتي لست سنوات محرراً صحفيا وكاتباً أعلم أن صحفاً يشتمها الذين شاركوا مساء الأحد في تلك الزوبعة قد استكتبت أقلاماً إسلامية في وقت لم تجرؤ مطبوعات إسلامية يرأسها أصدقاؤهم على استكتابهم، ولم تستضفهم قنوات فضائية مديروها مقربون لهم خشية من غضب الرقابة، في الوقت الذي اعتبرتهم الصحف التي يرأسها علمانيون -حسب رؤيتهم- كنزاً يجب المحافظة عليه فوقفت معهم ودعمتهم للنهوض من كبوتهم وقام رؤساء تحريرها بدور الوسيط لدى السلطات لتسهيل وضعهم عسى أن يبعث فيهم الأمل ويسلكوا طريق الاعتدال.
إنه لأمر محير أن يشتم كاتب صحيفة ينشر فيها كل أسبوع، ويتفاجأ حينما تستغني تلك الصحيفة عنه؟! إن مشكلة معظم إسلاميينا أنهم يعتقدون أن بإمكانهم خداع الجميع وأنهم أذكى من الكل حينما يغلفون كتاباتهم في صحف يكنون لرؤسائها ومحرريها كل العداء بكلمات تضمن لهم إبراء ذمة عند أخدانهم في الانتماء، وأنهم لكي يخففوا من الانتقادات التي يقرعهم بها أصحابهم يختارون في كل مقال مادة نشرت بتلك الصحيفة أو رأياً لأحد كتابها بالنقد والتجريح، ، غني عن القول أنني أتحدث عن إسلاميي السعودية الذين لم يزل معظمهم لايحسنون التفريق بين شخوص الرواية ومتون العقائد.
إن الصحف السعودية بحالتها الراهنة في كل الأحوال، أفضل عشرات المرات مما لو تولى رئاسة تحريرها بعضٌ ممن يقال عنهم إعلاميون إسلاميون، فضلاً عن أن يتولى رئاستها واحد من الأشخاص الذين قادوا الرعاع مساء الأحد.
ولكن المشكلة عميقة الجذور متشابكة، ولايمكن بحال من الأحوال عزلها عن سياقها العام، فإن إحدى الثارات التي يسعى إسلاميون مكمودون لنيلها، هو الموقف المعتدل للصحف السعودية من أحداث الحادي عشر من سبتمبر والإدانة الواضحة والمحاصرة الإعلامية لفكر القاعدة ورموزه. يكفي أن تتصفح مطبوعة إسلامية لتعرف سر الكراهية المضاعفة عندهم لصحيفة كالرياض قادت توجه التنوير ووقفت سوراً منيعاً من أن يخترقها متسلل من التكفيريين أو اللادينيين.
إن أحداث التخريب والاعتداءات على الممتلكات في باكستان إثر الرسوم التي نشرت في عدد من الصحف الأوربية، وما جرى في العراق الأسبوع الماضي من تفجيرات واعتداءات متبادلة بين السنة والشيعة استهدفت الأضرحة والمساجد والأرواح، و ماتلا ذلك بيومين من محاولات تفجير مصافي النفط في بقيق، وماعاشته الرياض مساء الأحد في معرض الكتاب، وما استصبحنا به يوم الاثنين من قتل خمسة إسلاميين في مواجهات مع الأمن ، كل تلك الأحداث ومثيلاتها المتناثرة عبر رقعة جغرافية هائلة في هلال ممتد من أندونيسيا وحتى المغرب العربي تفصح عن أزمة حقيقية في العالم الإسلامي، ليس مبعثها الاستبداد السياسي ولا غياب الديمقراطية، ولا عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، بل التعصب، وغياب التسامح، وسيادة عقلية الرعاع التي جعلت من قضية عادلة كالاحتجاج على رسوم مسيئة تمس أقدس ماعند المسلمين حراباً تتحول أسنتها إلى صدور المسلمين أنفسهم باضطرابات وقلاقل وإفساد في الأرض، قدمت أكبر شاهد للعالم بأسره على أن أولئك المحتجين لافرق عندهم بين كلمة وصورة وبين سفك الدماء وإشاعة الدمار، وأنهم لايختلفون كثيراً عن أولئك الذين يجزون رقاب من يختلفون عنهم في الدين أو يناقضونهم في الفكر.
إن الخطر الحقيقي الذي يعيشه العالم الإسلامي هو انحسار رقعة الاعتدال والوسطية، لصالح قوى أكثر تأثيراً وأفدح تدميراً، لحى وعمائم متواضعة الفهم منغلقة التفكير، ضاربة النفوذ في باكستان ومسيطرة في السعودية اليوم، إن أي ادعاءات أخرى بانحسار صوت التطرف والغلو والجهل المركب ترد أسبابه إلى عوامل خارجية ليس إلا خداعاً للنفس، فالجهل شفاؤه العلم وليس المال والرفاه وطفرة في سوق الأسهم، وملايين تصب في الجيوب.إن الغلو شفاؤه هيمنة عقلية التيسير واعتبار المنفعة، والتعصب شفاؤه التسامح، وضيق العطن، والانغلاق شفاؤه الإذعان لجبروت الفلسفة التي لاتجد لها أي أثر في جامعاتنا ومؤسساتنا، إن رفاه العيش يزيد الجاهل جهلاً مركباً وتورماً أبله، وادعاء فارغاً بالعلم والمعرفة. إن وفرة المال تمنح الجاهل قدرة على شراء الكتب، ولكنها الكتب التي تؤصل جهله وتعمق بلاهته، وتنافق عاداته المتجذرة وأفكاره المتأصلة مهما كانت خطورتها، المال يمنح المتخلف تقنية تساعده على فتح كوة على الآخر، ولكنها تستحيل بيده أدوات تدمير وإفساد.
في ثقافات أخرى هناك متعصبون ولكننا نحن المسلمين الأكثر تعصباً ، ولديهم عنصريون ولكننا نحن نقتل على الدين والطائفة أكثر من أتباع أي دين آخر، ونعادي ونستأصل ونقصي باسم الله ضحايا أكثر عدداً ممن يعانون من أبنائنا من تمييز طالهم في القوانين والتشريعات في أوروبا التي لجأوا إليها طالبين الأمن والرخاء والحياة الطيبة ، في أمريكا غوغائيون ولكننا ننفرد بالنصيب الأكبر من رعاع يقودون مجتمعات ويهلكون الحرث والنسل ويشكلون عقول أجيال، تقضي أعمارها تؤمن بالخرافات وتمنح أرواحها لأماني كاذبة.
إن ماجرى مساء الأحد يجب أن لا يمضي هكذا، وإن الأسماء التي شاركت في الفوضى وقادت الرعاع الذين تطاولوا بالشتائم والسباب والتكفير والتهديد يجب أن تقدم إلى القضاء، والمطالبة بتأديبهم وعقابهم على ماحصل، والإصرار على ذلك، وإلا فإن لنا أن نتوقع تكرار ذلك إذا ماترك الحبل لهم على الغارب، في ظل قناعة تترسخ لديهم أن خصومهم جبناء إباحيون لامبادئ يؤمنون بها، ولا قيم يستبطنونها، وأنهم يفضلون دائماً الالتصاق بالجدار على أن يواجهوا أفكاراً مدمرة تعيث في البلاد والعباد فساداً.
1/3/2006