منصور النقيدان♦
أفغانستان البلد الأكثر فقراً في العالم ستبقى تلك البقعة التي ينساها الجميع عند اقتسام الغنائم وتوزيع الأرباح. وكونها البلد الذي هزم الإمبراطوريات منذ 150 عاماً ليس إلا تهويدة لا تسمن ولا تغني من جوع، بلد يعاني منذ عشرات السنين الفقر والتشرذم والإرهاب والاضطراب والفاقة والجهل. أفغانستان هي ساحة لعب الكبار؛ إنها حلبة صدام الديناصورات التي يُسحق فيها تحت الأقدام المتطفلون الحالمون، والفضوليون، والمغامرون الصغار، ونتاجها أولئك المنسيون دائماً من الضعاف والمرضى والنساء والأطفال.
سقطت اليوم العاصمة الأفغانية كابول، بيد “طالبان”، وأنظار العالم كله تتجه نحوها من الداخل أو الخارج.
ما الذي تنويه “طالبان” في قادم الأيام؟ وكيف ستتصرف؟
الرئيس الباكستاني عمران خان، قال، الخميس الماضي، إن باكستان لها نفوذ على “طالبان”، وستمارس إسلام آباد ضغوطها على الحركة للقبول بالشراكة، وبتسويةٍ سلمية حول مستقبل حكم البلاد. ولكن الأمر لن يكون سهلاً على “طالبان”، التي ستكون في الأخير منصاعة لتشارك الحكم وليس الاستفراد به.
عمران خان
والمسؤولون الأمريكيون لا يزالون حتى لحظة كتابة هذه المقالة يزمجرون ويهددون ويتوعدون؛ ولكن الجميع يعلم أن أفغانستان تغرق تدريجياً في الظلام، أو أنها تعود إلى وضعها الطبيعي. فمن يستهين بالإرث، وبمئات السنين من الأعراف والتقاليد والجينات الثقافية، هم حتماً أولئك الذين غرتهم القشور والدعاية الأمريكية، والأكاذيب التي نُسجت خلال العشرين عاماً الماضية.
ولطالما آمنت بالسيرة الذاتية للمجتمعات والشعوب؛ فهي الحاكم وهي المرجع وكسرها يحتاج إلى معجزة، ويبدو أن أفغانستان مغضوب عليها، فلا أنبياء يحدثون المعجزات، ولا مصلحون يحققون الأحلام، ويعيث في أصقاعها الضواري، من تجار المخدرات وأمراء الحروب والجماعات المسلحة والمتطرفة، وجواسيس الدول العظمى.
نجحت عناصر “طالبان” في السيطرة على العاصمة كابول- وكالات
لا جديد يستحق الاهتمام عند عجايز أمراء الحرب الذين تورطوا جميعاً في جرائم إنسانية طوال العقود الثلاثة الماضية، ويبدو أن أكثرهم تكيفاً هو حكمتيار، الذي يبدو أنه سيكون الأوفر حظاً في تسوية مع غريمته “طالبان”. حكمتيار لا يزال شريكاً في الحكومة التي انهارت؛ ولكن حصته في مستقبل حكم البلاد غير واضحة حتى الآن. هل ستقبل به “طالبان” حاكماً لكابول؟
كان لحكمتيار المتقلب في الأيام الماضية، تصريحات مقتضبة تعبر عن رسائل تطمينية وتظهره مرشحاً كشريك موثوق في صناعة مستقبل أفغانستان. وهو شريك في الحكومة؛ ولكنه أعلن مراراً أنه نأى بقواته عن المشاركة في مواجهة “طالبان”.
قلب الدين حكميتار
تركيا حليفة حكمتيار، تسعى إلى كسب دعم باكستان؛ لمباركة دور تركي على الأراضي الأفغانية، وشراكة باكستانية، وبالتالي تخفيف قلق “طالبان”، وبدعمٍ من أمريكا وحلف الناتو، فإن تركيا تطمح إلى خلافة القوات الدولية على الأراضي الأفغانية، وربما يكتسب الحزب الإسلامي وزعيمه حكمتيار وضعاً أفضل يقوى بقوة حليفته، ويتضعضع بتقهقرها. ومؤكد أنه سيكون شريكاً مهماً لدعم الوجود التركي، وتنفيذ أهداف تركيا في منطقة آسيا الوسطى، وتركيا قد تجعل من مطار كابول بازاراً ومكتباً لشركاتها التي ستكون منافساً في إعمار أفغانستان.
“طالبان” المتشددة لا تزال كما عرفناها قبل عشرين عاماً أكثر قسوةً وتطرفاً وقمعاً وإهانةً للمرأة؛ ولكنها لتحكم أفغانستان ستتصرف ببراغماتية كأي لاعبٍ سياسي، ولذلك قبلت الحركة الجهادية الدخول في عدة مفاوضات سلام؛ سواء أكان ذلك في الدوحة أو إسلام آباد، أو ربما قريباً في إسطنبول؛ استجابة لدعوة أردوغان الذي وجهت إليه “طالبان” مراراً رسالة بأن قواته غير مرغوب فيها على أرض أفغانستان، وأنها لا تعدو أن تكون قوة احتلال، حتى إن كانت لدولة مسلمة لم تتورط في العمليات العسكرية، كما يشيع الأتراك.
لم يتردد ممثلو الحركة في السفر إلى عواصم القوى الكبرى؛ لشرح مطالبهم. الصين نفسها كان لها تفاهماتها الخاصة مع “طالبان” منذ ما قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، وسمحت “طالبان” للشركات الصينية منذ 2006 بالاستثمار والتنقيب في مناطق نفوذها منذ عودتها في 2005. واستمرت هذه الشراكة رغم الانتقادات الأمريكية التي وجهتها إلى بكين منذ 2009؛ لعدم مبالاتها بالتعاطي مع الحركة. “طالبان” كانت تريد العودة إلى القوة والسلطة؛ وهو ما أعلنته بلا مواربة منذ بداية مفاوضات السلام تحت الرعاية الأمريكية في 2018.
وفي أكثر السيناريوهات مرونةً، فإن أقصى ما ستتنازل عنه “طالبان” وتقدمه هو قبولها بنظامٍ سياسي هجين، يجمع بين بعض ملامح وتركيبة حكومة كابول، وملامح وتركيبة “طالبان” ذاتها. وعلينا أن نتذكر أن “طالبان” تستمد ثقتها ليس فقط من انتصاراتها العسكرية؛ بل أيضاً من الاستجابة الأمريكية لبعض أهم مطالب الحركة قبيل البدء في مفاوضات السلام خلال 2018؛ ومنها تشكيل مجلس إسلامي أعلى يضم نخبة رجال الدين، ويقوم بتوجيه أية حكومة انتقالية يتفق عليها الأفغان.
ولا شك في أن “طالبان” اليوم وهي تشهد إجلاء آخر القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والدولية والبعثات الدبلوماسية من كابول، تتطلع لاستخدام هذا المجلس كأداة للتحكم بالدولة وأسلمتها في حال تشكيل حكومة انتقالية في الفترة القادمة؛ ولكن الحديث عن هذا لا يزال مبكراً.
لكن من الصعوبة بمكان أن نرى “طالبان” وهي تقبل بأن تتفاوض مع الرئيس الحالي أشرف غني، الذي فرّ صباح اليوم إلى جهة غير معلومة، أُشيع أنها طاجيكستان، ومن أسباب رفض الحركة لغني أنها تعتبره “علماني” التوجه، وعقبة في وجه إعادة أسلمة البلاد.
كما أن قيادة الحركة تعلم أن حليفتها باكستان تنظر بامتعاض وتوجس نحو غني بوصفه قومياً بشتونياً وحليفاً للهند، ولذلك المخاطرة بإثارة غضب إسلام آباد. قصة باكستان مع بشتون الكبرى طويلة ومعقدة؛ ولهذا ليس مستغرباً أن تدعم باكستان حركة بشتونية دينية كفيلة بإفشال حلم القوميين البشتون.
إسلام آباد نفسها لديها حساباتها؛ وأعظمها التهديد المقلق لـ”طالبان” باكستان التي انتعشت بالعودة المظفرة لتوأمها الأفغاني إلى الحكم في أفغانستان، وتعاني باكستان العمليات المسلحة والتفجيرات التي تشنها الحركة المتطرفة. باكستان اليوم حليفة وشريكة للصين، وتكاد الصين بمشروعات الإعمار والطرق والمواصلات التي تجاوزت ستين مليار دولار التي صبت في الخزينة الباكستانية، قد ضمنت باكستان في صفها لتنفيذ رؤيتها.
تبدو باكستان ضعيفة أمام الصين وأمام “طالبان” أفغانستان؛ فالعلاقة الشائكة بين الحركة وإسلام آباد ستبقى متوترة، ولكنها مشدودة بخيط لن ينقطع، فلباكستان حساباتها الخاصة؛ نظراً إلى القومية البشتونية التي تشكل جزءاً كبيراً من مواطنيها، ونظراً إلى مخاوفها من أهداف الهند؛ عدوتها وجارتها النووية.
الصين لا تبدو قلقة من أي تأثير سلبي لـ”طالبان” على مسلميها الإيغور رغم أنها تؤوي مئات منهم. أما روسيا، فإن قلقها الأكبر من تنامي الحركات والجماعات المسلحة المتطرفة، واستهدافها استقرار روسيا وإغوائها مسلمي القوقاز، مضافاً إليه قلقها على استقرار دول آسيا الوسطى؛ حيث قد تجد المصالح الأمريكية والأطماع التركية فيها أرضاً خصبة.
يبدو أن الحركة تدوزن مستقبل علاقاتها مع القوى الضالعة في أفغانستان، والتي سيكون لها تأثير إقليمي في منطقة آسيا الوسطى. وفرار أشرف غني ولجوؤه إلى طاجيكستان يعني أن روسيا ستكون ضالعة في الشأن الأفغاني؛ فروسيا تهيمن على طاجيكستان، ومنذ أيام أجرت معها مناورات على الحدود الأفغانية.
أفغانستان الآن هي المعبر للمنطقة الأكثر خطورة، وهي دول آسيا الوسطى؛ فالقلق يتعاظم عند روسيا والصين، خشية تنامي المنظمات الإرهابية، ومن “داعش” وأخواتها. طاجيكستان تتهم “طالبان” بأنها حشدت قواتها على حدودها ودعمت أنصار الله الطاجيكية؛ وهي بمثابة “طالبان” طاجيكستان.
أما إيران، فالإيرانيون منذ 2016 كان لهم تفاهماتهم مع عدوتهم اللدودة “طالبان” لحماية ألف كيلومتر من حدودهم من تهديدات حركة خراسان- “داعش”، ومن تدفق المهاجرين واللاجئين. تقوم إيران بتوازناتها الحساسة لكسب “طالبان”، وفي الوقت نفسه أقامت المعسكرات لتدريب المجندين الأفغان الهزارة داخل كابول، وعلى الأراضي الإيرانية؛ لضمان توظيف شيعة أفغانستان الهزارة ضد الحركة إذا دعت الحاجة.
التصريحات للمسؤولين الإيرانيين أقل حدة، والإعلام الإيراني تم كبحه عن الهجوم على “طالبان”، وحضرت “طالبان” أكثر من اجتماع بين الفرقاء الأفغان في إيران وبإشراف وزير الخارجية السابق جواد ظريف، كما استنكرت “طالبان” اغتيال قاسم سليماني. الشيعة الهزارة لزموا الهدوء، وأبدوا موقفاً ناعماً من الاكتساحات العسكرية لـ”طالبان” في الأسابيع الماضية، بإشارة من إيران.
ورغم قوة “طالبان”؛ فإنها عاجزة عن إقناع المواطنين الأفغان بأنها كانت السبب وراء الانسحاب الأمريكي من البلاد، حيث إنها كانت على تواصل معهم، كما أن إعلان أنقرة رغبتها في إدارة مطار كابول، عقَّد موقف الحركة، التي تقدم نفسها للأفغان بوصفها العائق الوحيد أمام وجود جنود أجانب على أراضي البلاد -وهذا يشكل محوراً مهماً في بروباغندا الحركة- يأتي هذا كله على الرغم من براغماتية “طالبان”، وعدم ممانعتها من الحديث مع الأتراك، كما تتحاور مع الروس والصينيين والإيرانيين.
إذن ما الذي نتوقعه من “طالبان”؟ هل ستشارك الحركة في الجولات القادمة من مفاوضات السلام التي ستُعقد تحت الرعاية التركية في “مؤتمر إسطنبول” للوصول إلى تسوية ومحاصصة لحكم البلاد بعد أن أصبحت هي القوة الضاربة التي تحكم كابول؟ هل ستتكشف هدنة بين جميع أطراف الصراع في البلاد؟
قبول الهدنة سوف يضع قيادة الحركة في حرج أمام أنصارها، وبالذات الأكثر تشدداً بعد انتصاراتها المظفرة وانسحاب القوات الأمريكية.
أما رفض الهدنة فسوف يُسهم في تشويه صورتها دولياً، كما أن رفض الهدنة سوف يضع القيادة في موقف صعب أمام قسم آخر من أنصارها، ومن الشارع الأفغاني عموماً، ممن يتوقون لإنهاء العنف وممن يتوقعون أن تُفضي جولات محادثات السلام التي تكررت كثيراً إلى نتيجة ملموسة.
ستواجه “طالبان” صعوبة في إخضاع البلاد بالكامل عسكرياً؛ وهي في أمسّ الحاجة إلى التفاوض وكذلك عقد صفقات وتحالفات. ما يعنيه كل ما سبق، أن “طالبان” سوف تتصلب في مواقفها الدبلوماسية، أو قد ترفض استكمال المشاركة في مفاوضات السلام في مؤتمر إسطنبول، بعد أن سقطت كابول في قبضتها؛ ولكن أفغانستان البلد الأكثر فقراً في العالم ستبقى تلك البقعة التي ينساها الجميع عند اقتسام الغنائم وتوزيع الأرباح.
وكونها البلد الذي هزم الإمبراطوريات منذ 150 عاماً ليس إلا تهويدة لا تسمن ولا تغني من جوع، بلد يعاني منذ عشرات السنين الفقر والتشرذم والإرهاب والاضطراب والفاقة والجهل. أفغانستان هي ساحة لعب الكبار، إنها حلبة صدام الديناصورات التي يُسحق فيها تحت الأقدام المتطفلون الحالمون، والفضوليون، والمغامرون الصغار، ونتاجها أولئك المنسيون دائماً من الضعاف والمرضى والنساء والأطفال.