منصور النقيدان♦
يحتفل أغلب المسلمين في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول بمولد النبي العربي الأمي محمد بن عبدالله، عليه السلام، وتحلّ هذه المناسبة في حالٍ سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي وديني لا يختلف عما سبقه من أعوام سلفت إلا في أنه يأتي والمسلمون أكثر تشتتاً واحتراباً وسفكاً لدماء بعضهم بعضاً وتكفيراً، وهواناً على الأمم، وكسلاً وغلاً.
وقد نقلت أحاديث نبوية كثيرة مختلفة في الصحة والضعف والنكارة عن الرسول بعضاً من تفاصيل أزمة أمته والفتن التي ستتناوحها من بعده، عن أصحابه الذين رافقوه وكيف سيتنكبون عن سنته ويُذادون (يبعدون) عن حوض كوثره يوم القيامة، حين يتفاجأ الرسول بأن الملائكة يبعدونهم عن القرب من مقامه، وحين يسأل الرسول عن سبب ذلك مذكراً بأنهم أصحابه، يُقال له: “إنك لا تدري ماذا بدلوا من بعدك”. ومع كل ذلك، فإن دينه ظهر وأمته سادت ولأربعة قرون أو تزيد كانوا سادة العالم وقوته العظمى قبل أن يبدأ الهبوط. وجاءت الحروب الصليبية وتلاها غزو التتر؛ لتكون الضربة القاصمة، ولينحسر العرق العربي، بيت محمد وأهله، ويذوبوا في بحر الشعوب والأعراق الأخرى، ولتغرق أمة محمد في ظلام وضياع وتتناوشها الضباع قروناً مديدة؛ حتى غدَت دويلات هشة ضعيفة وفاسدة ينخر فيها العفن والأمراض.
وتعبِّر كتب الفتن والملاحم التي استشرفت مآل أمة محمد، عن الرزايا والبلايا التي ستعصف بأمته من بعده، بأمرائها وملوكها وصالحيها والمسرفين منهم على أنفسهم، والعامة منهم، والسادة والسوقة، وعلى الأخص الهزائم المنكرة التي ستضربهم، والأخلاق المرذولة، وحين سأل الصحابة النبي عن سبب هوانهم بين الأمم حسب ما نبَّأهم به من المغيبات، وهل ذلك عن قلة عدد منهم، قال النبي لهم: “أنتم كثيرٌ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل”. ومع أن غالبية ما روي من أحاديث الفتن والملاحم لا تخلو من ضعف أو علة أو شذوذ أو نكارة أو بطلان إلا ما ندر؛ حيث كان بعض منها من وضع القصاص وإفك الوضاعين، فهي تعكس واقع المسلمين في عصر تدوين السُّنة حتى نهاية القرن الثالث الذي ختم معه كتب المستدركات على كتب الصحاح المعتمدة. وانعكس ذلك الواقع في المرويات التي أُسندت إلى النبي أو إلى أصحابه. ولكنّ السالكين والمتصوفة المعنيين باتباعه كانوا على الدوام يتشبثون بأحاديث ووصايا تؤكد أن القلة من الغرباء هم الذين سيكونون أوفياء لنهجه وطريقته “فطوبى للغرباء”.
يذكر سمير غريب؛ رئيس جهاز التنسيق الحضاري الأسبق بوزارة الثقافة المصرية، أن أحد أباطرة الصين طلب من بعض فناني المسلمين عمل صور للرسول محمد، عليه الصلاة والسلام، بعد وفاته بمئتَي عام، فقاموا في البدء بجمع أوصافه من كتب المسلمين؛ مثل السيرة النبوية وكتب الشمائل المحمدية، وبعدها قدمت له صورته وَفق ما توفر لديهم، وهذه القصة تشابه قصة مجموعة الجمال؛ وهي إحدى وأربعون لوحة قام بعملها مجموعة من الفنانين الألمان، تلبيةً لرغبة ملك بافاريا الملك لودفيغ، تختصر جمال نساء الكون في تلك الإحدى والأربعين فتاة اللواتي استغرق البحث عنهن ما يقارب خمسة وعشرين عاماً.
وكان بعض سلاطين العثمانيين وملوك الفرس يحتفظون في قصورهم بجداريات تضمنت رسوماً للرسول. وحسب معلوماتي فإنه من ضمن 600 قطعة يحتفظ بها متحف (الأمانة المقدسة) في إسطنبول بعض من هذه الجداريات التي لا يتاح معظمها للزوار، والتي كانت ضمن مقتنيات الباب العالي، وفي بازارات مدينتَي مشهد وقم الإيرانيتَين تُباع منسوجات عليها صورة لـ(حضرت محمد)، في فترة صباه شاباً يافعاً يرتدي رداءً، مفلوج الأسنان؛ حيث يجيز عدد من مراجع المذهب الشيعي تصوير الرسول إذا كان ذلك في إطار الصورة المتخيلة للجمال والبهاء النبوي. لكن بعض ملامحه؛ مثل حاجبيه المفروقَين وأنفه، لا تتطابق مع ما تناقلته مرويات أهل السُّنة عن أوصاف الرسول بعد النبوة، من أنه كان أقرن الحاجبَين أشم الأنف.
بعد وفاة الرسول بفترة وجيزة، كان الصحابة والتابعون يتقفرون بقايا صورته في بعض أهل بيته والأدنين من عشيرته، آثاراً من أوصافه تذكرهم به وبسيرته وحياته، وكان قثم بن العباس؛ ابن عم الرسول، أشبههم به، ولهذا كان محظياً من والده العباس، وله مكانة خاصة، وكان العباس يرقصه وهو طفل صغير ويلاعبه وينشد: حبي قثم ٭ حبي قثم ٭ شبيه ذي الأنف الأشم ٭ رسول ربي ذي النعم
وكان جعفر بن أبي طالب هو أكثرهم شبهاً بالرسول؛ ولكنَّ جعفراً توفي في غزوة مؤتة والرسول بين ظهراني المؤمنين.
بقيت أوصاف الرسول الخَلقية والخُلقية، التي حكاها أصحابه وتناقلتها كتب السيرة والشمائل ملهمة لأتباعه يتطلعون للاقتداء به، ويسعدون حين تقارب سحنة أحدهم وصفاً يقاربه أو حالاً يتفق مع شيء من أحواله؛ طريقته في التبسم، وهيئته حينما يلتفت، ونهجه الأعظم في التعامل مع الأطفال والنساء، وأسلوبه في الحديث والخطابة، وحياؤه الشديد وخجله حينما يبدو على وجهه الغضب كحبات الرمان، أو حينما يغضي حياءً عن الإساءة.
وحيث إن المسلمين لا يملكون أي صور أو رسوم للرسول، عليه السلام، لا في حياته ولا بعد وفاته مع إمكان ذلك واقعاً، لا بين ظهراني عرب الحجاز ولا عند غيرهم ممن هم مظنة ذلك، كما في القصة الشهيرة لالتقاء الرسول ببحيرا الراهب في الشام قبل النبوة؛ حيث كان الأخير مهتماً به، مندهشاً حسب ما يُحكى من علامات رآها وآيات تعزز اعتقاده بأن محمداً سيكون نبي العرب القادم، فقد عوض المسلمون عن ذلك وسدوا النقص بحكاية أدق الأشياء عنه: عدد الشعرات البيضاء في لحيته، وفي رأسه واختلاف أحوال شعر رأسه حسب المناخ، من لمة إلى وفرة، إلى جمة، وبياض أسنانه ولون بشرته، وشعر جسده، وشكل فمه، وطوله وعرضه، ونعومة كفَّيه اللتَين تشبهان القطن كما يقول أنس خادم النبي، ولهذا ارتبطت مصداقية رؤيا المؤمن للنبي في المنام بمدى مطابقتها للأوصاف التي ذكرت له واستوفتها كتب السُّنة والسيرة وأفردت في كتبِ عُرفت باسم الخصائص المحمدية أو باسم الشمائل.
روى البخاري أن الرسول قال: «مَن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي»، ولهذا طفحت كتب السلف والصوفية والنساك بقصص الأشخاص الذين رأوه في المنام، وكانت رؤيتهم له انقلاباً ومنعطفاً كبيراً في حياتهم، إما لأنه أفضى إليهم بأشياء تخص روابطهم الأسرية والاجتماعية، أو ذات علاقة مباشرة بصلتهم بالله ومدى تمسكهم بشعائر الدين، أو لأن لقاءهم به حمل بشرى ووعداً لهم بالنجاح ويُسر الأمور وتجاوز المحن، أو كانت الرؤيا سبباً في حل إشكال عقدي ومسألة فقهية مستعصية؛ لكن أحداً من علماء السُّنة قطعاً لم يقُل بجواز أن يستلهم من تلك الأخيلة والمنامات التي يتم اعتبارها رؤى حقيقية و(وحياً من الله) -حيث الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، ومن المبشرات- صوراً تجسده أو تقارب خياله في رؤى الصالحين من عباده.
وأحد مبررات التحريم لدى المانعين أنه لا يمكن مهما حاول بنو الإنسان أن يقاربوا صورته وخياله الشريف أن يطابقوا الواقع أو أن يقاربوه، ولكننا نجد في السيرة النبوية قصصاً تحكي عن أشخاص لم يلتقوا الرسول من قبل، تمكنوا من معرفته وتمييزه بين أصحابه وهو ساكن لا حراك له، وحواريوه يحيطون به كالعقد، ولولا الأوصاف التي نُقلت عنه ومقاربة الآخرين لأخيلة في أذهانهم لشكله لما عرفوه، وهذا شيء بديهي، وفي سورة الأنعام يقول القرآن الكريم: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون}. ولو كان الرسول شيئاً متعالياً عن الشبيه لما كان لآية: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} أي خصوصية بالله كما يعتقد المسلمون.
يذكر الباحث التونسي يوسف الصديق، أن مسألة تصوير الرسول، عليه السلام، تحليلاً أو تحريماً بقيت مسألة مسكوتاً عنها لأربعة أو خمسة قرون من وفاته، مستدلاً بأن القرآن خال تماماً من أي ذكر لها. ويذكر أحد الصحابة أنه رأى الرسول عليه السلام ذات مرة ورأى القمر ليلة البدر، فلا يدري أيهما أجمل، الرسول أم البدر، ويقول أنس بن مالك، خادمه، إنه لم يمس يداً ألين وأنعم من القطن مثل كف الرسول.
تعرض الرسول إلى مواقف عديدة في حياته أُسيء إليه فيها بعد النبوة، وفي كلتا المرحلتَين، المكية والمدنية، كان يناله أذى كثير متنوع الأساليب؛ في مكة حيث الضعف كان الحال يبلغ به أن يوضع على ظهره سلا الجزور والقذارة وهو ساجد وقائم عند البيت العتيق، فيتضاحك صناديد قريش، وأحياناً كان يُرمى بالحجارة ويسمع سيئ القول من كارهيه وحاسديه، إلا أنه في المدينة مع النصرة والتمكين كانت السخرية منه مكتومة ومخفية وتظهر على فلتات الألسن وأحاديث المجالس المغلقة وجلسات السمر لفئة من الذين عرفوا بـ”المنافقين”.
وقد أجريتُ بحثاً قبل ثماني سنوات حول حقيقة أمر الرسول عدداً من أصحابه باغتيال مَن أساء إليه بذاته، أو سخر منه وألف القصائد المسيئة إلى مقامه، أو من كان يمثل خطراً وعدواناً على الدعوة الإسلامية والجماعة المسلمة. فأحصيتها تسع حالات تقريباً، بعض منها ذكر فيها أن الرسول يؤكد على مَن كلف بالمهمة أن يحضر معه رأس المطلوب قتله، ومع أنها روايات ظلَّت قابعة لقرون عديدة عبر ألف ومئتي عام، في كتب السُّنة والسيرة والطبقات، وأغلبها لا تخلو من نكارة، إلا أنه لا يمكن ألبتة اعتبار السكوت عنها من قِبل فقهاء الإسلام ومفكريه اليوم أمراً مقبولاً. فأصح الروايات المروية في كتب السُّنة التي ذكرت حادثتها في سورة التوبة تؤكد أن النبي عاتب من هزئ به وسخر منه وهجرهم وأعرض عنهم واشتد في القول عليهم؛ ولكنه إطلاقاً لم يأمر بقتلهم أو التنكيل بهم أو التفريق بينهم وبين نسائهم أو صادر أموالهم أو نفاهم. وكان ابن أبي بن سلول دائم السخرية من الرسول ومن أصحابه، ومع ذلك لم يمسسه سوء وهو بين ظهراني المسلمين في يثرب، وحين توفي ألبسه الرسول بردته وأشرف على دفنه كما يليق بمقام سيد مثله.
على فقهاء المسلمين اليوم أن يوضحوا أن الرسول لم يكن ليأمر بالغيلة ولا بقتل مَن نال منه؛ لأنه كان نبي الرحمة، ولم يكن زعيم عصابة ولا حركة سرية ولا حزب سياسي، وأن المحكم المقطوع به هو أنه فوَّض أمره إلى الله، وجعل من دلائل صدقه وأخلاقه وشيمه هي البرهان الأكبر على نبوته وأن الله تكفل بحمايته وكفايته والدفاع عنه: “أليس الله بكافٍ عبده”، “إن الله يدافع عن الذين آمنوا”، “إنا كفيناك المستهزئين”.
وأجد في هذا الدعاء البليغ الذي نفثه النبي الأعظم من قلب حزين إثر منصرفه من الطائف بعد أن سلطت عليه ثقيف الصبيان والسفهاء يرمونه بالحجارة؛ حيث أوى إلى شجرة وباح بها شكوى إلى ربه، أجده أعظم سلوى لمَن كان كسير القلب غريباً محزوناً، «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
وقد ضعَّف عددٌ من كبار المحدثين هذا الأثر، إلا أنه كما يقول أحد فقهاء الإسلام الكبار: “مهما يكن فإن في هذه الكلمات نور النبوة”. وأرى فيه تجسيداً صادقاً لمحمد النبي العربي.
على المسلمين اليوم أن يقوموا لله مثنى وفرادى، ثم يتفكرون في أزمتهم العميقة مع أنفسهم ومع دينهم أولاً، ثم مع إخوانهم من أبناء الديانات الأخرى، وأن يثبتوا أنهم خير أمة أخرجت للناس رحمة ومحبة.