منصور النقيدان♦
يحتفظ الصينيون بهذه الوصية عن الزعيم الإصلاحي دينغ شياو بينغ، “فلنعمل على إخفاء نورنا، وانتظار مجيء وقتنا”؛ أي عدم جذب كثير من الانتباه، وفي الوقت نفسه العمل على تراكم نقاط القوة الصينية.

صورة الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ في أحد الميادين
واليوم، تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفاؤها، صعود قوة عالمية عظمى هي الصين. وجاءت جائحة كورونا لتكشف عن قدرة كلتا الدولتين العظميين على مواجهة الأزمة وتبعاتها. ويبدو أن أمريكا وحلفاءها الأوروبيين يعانون إنهاكاً، ويتمتعون بلياقة أقل، وألق أضعف، ومرحلة من انحسار الإلهام وتضعضع الحلم الأمريكي، أكثر من أي وقت مضى. وبالتوازي مع هذا التحول الجيوسياسي الهائل تبدو روسيا اليوم في لحظة من الانبعاث لا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال بما كانت عليه هذه الدولة عام 1999؛ حيث ورثت إمبراطورية الاتحاد السوفييتي، وتحملت النتائج المدمرة لتفككه.
كانت الأجندة الثقافية في صدارة برامج وكالة المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية في فترة الحرب الباردة التي سادت قرابة أربعين عاماً حتى سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي. فهل يمكننا تصور حرب باردة ثقافية أمريكية- صينية على غرار ما عرفه العالم بين المعسكرَين الشرقي والغربي؟
وتبدو الصين التي كانت على مدى قرون طويلة أشبه بحضارة مستقلة، شبه مكتفية بذاتها، أمة من أكثر من مليار إنسان بمساحة جغرافية تفوق الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تزال الصين منذ 1949 يحكمها حزب شيوعي. ومع ثورة المعلوماتية نهجت الصين الشعبية الانفتاح النسبي والقنوات الفضائية والمواقع الإخبارية على الإنترنت والمؤتمرات التي تخاطب فيها الصين العالم بلغاته المتعددة، وتغرقه في الوقت نفسه بمنتجاتها، إلا أنها لا تزال أكثر غموضاً وإثارة للريبة والشكوك، كما تسببت إدارة الحكومة الصينية لجائحة “كورونا” منذ اليوم الأول، وصمتها أسابيع كان ملايين الصينيين يجوبون فيها العالم، في تخوف وقلق عالمي إزاء الغموض والتشافي المبكر الذي عملت الدعاية الصينية على التباهي به.

أحد مصانع الأقنعة الوقائية في الصين- فبراير 2020
وعلى الرغم من أن الصين اليوم هي أكثر انفتاحاً على العالم من أي وقت مضى في التاريخ؛ فإن عدم ازدراد الصين وعسر هضم ثقافتها يشيد سوراً نفسياً يحول دون الارتياح من أن تأخذ هذه القوة الكونية مكانها لقيادة العالم في العقود المقبلة، وهو حاجز تمتد جذوره إلى عشرات القرون من التجربة الإنسانية، وسمحت هذه الشكوك بخلق ذريعة من الأوهام تنسج في وجه طوفان من الاكتساح للعرق الأصفر الذي أطبق على العالم اقتصادياً وأمسك بمفاصله؛ ممثلاً شرياناً وجودياً لعالم كسول مريض بالاستهلاك، وثدياً من التدفق الصناعي العارم يبدو أن البشرية غير مهيئة بعد على فطامه، حتى لتلك المجتمعات التي ترى في نفسها ضحية لسوء إدارة الصين في التعامل مع الجائحة، مع شعور متناقض يتلاطم في مخيالها السياسي يمثل مزيجاً من الإعجاب والخوف والشعور بالخيانة، والعجز عن الاستغناء، فضلاً عن المنافسة.
وفي الوقت نفسه، تجد مجتمعات تنتمي إلى الفضاء الإبراهيمي، وهو كتلة بشرية تتجاوز نصف سكان العالم تقريباً، ممتد من إندونيسيا حتى الأمريكتين، صعوبة في فهم هذه الثقافة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عرف العالم حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وقادت أمريكا حربها الطويلة ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي. خرجت أمريكا من الحرب قوة عظمى عسكرياً واقتصادياً. ولد “الكونجرس/ المنظمة الدولية للثقافة والحرية” بتمويل هائل من المخابرات الأمريكية (CIA)، واحتوى هذا المشروع مئات المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين، وأصدر عشرات المجلات والدوريات والمعارض، بخمسة وثلاثين مركزاً حول العالم، وتكونت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع الـ«CIA» لـ”تمحو من الأذهان فكرة أن أمريكا صحراء ثقافية وتزرع فيها فكرة جديدة مؤداها أن العالم في حاجة إلى سلام أمريكي، وإلى عصر تنوير جديد، وأن ذلك كله سيكون اسمه القرن الأمريكي”.

مقر الكونجرس الأمريكي
عاش هذا المشروع قرابة عشرين عاماً. ولكن الحرب الباردة لم يعلن انتهاؤها رسمياً حتى أوائل التسعينيات، لحظة تفكك الاتحاد السوفييتي. وتواجه الولايات المتحدة الأمريكية نسخاً جديدة محوَّرة من اليسار تعم العالم وتنتعش في أوقات الأزمات.
في عالم يعاني هذه العلل كيف يمكننا أن نتصور أن يخوض العالم الغربي حرباً باردة ثقافية ضد الصين؟! هل يمكن تكرار ما حصل؟ هل يمثل ذلك مأساة أو مهزلة؟
اليوم بعد ثلاثة عقود، تواجه الولايات المتحدة الأمريكية صعود قوة عظمى أكثر تحدياً اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، كما تواجه تحدياً آخر أقل خطورة يتمثل في صعود جديد لروسيا التي باتت الآن على مرمى حجر من حدود أوروبا شرق المتوسط وجنوبه.
عقب الحرب العالمية الثانية نهضت أمريكا بأوروبا وأعادت إعمارها، لتكون أكثر قوة وصلابة أمام الاتحاد السوفييتي، غير أن المفارقة اليوم أن أوروبا هي الآن في أكثر حالاتها ضعفاً وهشاشة، وكانت مواجهة إيطاليا للجائحة وتخلي أوروبا عنها، ومد الصين وروسيا يدهما إليها لحظة كاشفة معبرة عن مستقبل أوروبا، كما مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضربة قاصمة أكثر إيلاماً.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – أرشيف
ويبدو الروس مع بوتين أكثر خشونة وأكثر اعتداداً بأنفسهم وأكثر فخراً قومياً، غير أن الأهم أنهم أكثر تقارباً مع الصينيين وتنسيقاً، مع قناعة تزداد رسوخاً بأنهم في حاجة ملحة إلى شراكة استراتيجية مع الصين وعقد تحالف معها في مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية على النظام المالي، وضرورة خلق عالم سيبراني تقصر دونه اليد الطولى للعم سام. وفي السنوات الأخيرة تكثر المناسبات التي يحذر فيها خبراء روس، عبر حوارات متعددة وفي محافل دولية ولقاءات صحفية، من أن أمريكا قادرة على أن تشل النظام المصرفي الروسي، وإدراك الروس لهذا العجز يجعلهم قلقين للغاية، “فما جدوى أن تنافس عسكرياً في الوقت الذي يمكنك أن تواجه شللاً في عصب الاقتصاد، وتدفق المعلومة؟!”، حسب خبير روسي في مقابلة مع صحيفة روسية في ديسمبر الماضي، مشيراً بشكل ساخر إلى أن “روسيا قوة عظمى ولكن ضعيفة”.

حرب ثقافية باردة بين الصين وأمريكا
وفي هذه اللحظة فإن الصراع الصيني- الأمريكي يلقي بظلاله الكئيبة على حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج أسوة بأوروبا الواهنة، الذين وجدوا أنفسهم أمام ضغوط أمريكية لا سابق لها لتحديد موقفهم من الصين واتخاذ خيارات ستكون لها نتائج مدمرة على شراكاتهم الاقتصادية مع الصين.
اليوم يبدو أنه ليس بيد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ذلك العنفوان والعلو والكبرياء الذي تلبسها قبل سبعة عقود، كما أن الألق والإغواء الذي مثلته الرأسمالية، وعقر دارها متجسداً في الحلم الأمريكي، ليس سهل المنال اليوم ولا من اليسير ابتكاره كرة أخرى. قبل قرابة تسعين عاماً كان الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، لا يُخفي إعجابه بالعرق الأنجلوساكسوني، جاعلاً من الولايات المتحدة الأمريكية مثالاً على عظمة الأمة اليافعة المتوثبة، مقارناً بينها وبين الإيطاليين المهاجرين الذين يمكنهم أن يموتوا جوعاً وهم يواجهون التحديات الوجودية الهائلة للمهاجرين الإنجليز الأوائل إلى العالم الجديد.
ومع أن التاريخ أحياناً يكون كريماً محابياً للحضارات التقليدية الكبرى، إلا أنه على الدوام يكاشفنا بأنه لا يمكنك “أن تأخذ زمانك وزمان غيرك”. مثلت الصين لقرون لغزاً وعالماً غرائبياً، نستقي الحكمة من عظمائها، مستأنسين باعتقاد جامد ومتخشب بأن الصين ليست سوى أمة خاملة نائية منكمشة على ذاتها، وكان هذا الاعتقاد بمثابة الإغواء الخاطئ الذي تدفع اليوم القوة العظمى وحلفاؤها ثمنه. واليوم تمثل رؤية الصين للشراكة العالمية عبر طريق الحرير والحزام ذروة التجلي لعظمة هذه الأمة. وفي يونيو الماضي، قالت أوريانا سكايلر ماسترو؛ الأستاذة المساعدة في جامعة جورجتاون، التي تدرس السياسة الأمنية الصينية، في تعليق لـ”وول ستريت جورنال”: “إن الصين (تحرز الكثير من التقدم؛ لأن لديها الكثير من الموارد)؛ لكن نهجها لم يكسبها الكثير من الأصدقاء”.

نيال فيرجسون
كتب نيال فيرجسون، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد، في مقالة نشرها في “فورين أفيرز” عام 2015، أن كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي “قد فهم أنه على الرغم من طابعها الثوري الواضح؛ فإن جمهورية الصين الشعبية قد تدخل في ميزان القوى، وأن العداء الصيني السوفييتي يمكن استغلاله من خلال تقريب الولايات المتحدة من كل طرف من الأطراف المتنافسة أكثر من تقاربها من بعضها البعض”.
وبالنظر إلى خمسة عقود تصرمت، فإن الصين وروسيا هما اليوم أكثر تفاهماً وتنسيقاً من أي وقت مضى.
في القرون الوسطى قال صوفي عظيم، هو الشيخ الأكبر ابن عربي: “إن التجلي المتكرر في الصورة الواحدة لا يعوَّل عليه”. من المستبعد أن يستمر العالم الغربي بقيادة أمريكا مهيمناً في العقدَين القادمَين، أو يعيد خلق نفسه طوداً شامخاً دون المارد الذي يبدو أنه يعيش لحظته، كما أن التاريخ نفسه يمنحنا دروساً كبيرة ومُمِضَّة، مثيراً جرحاً نرجسياً عميق الغور حول معنى التاريخ ومجراه، مختزلاً دروسه بوعينا لمعنى لحظات الغسق والغرق في مجاهل التاريخ، وساعة الحظ والانبعاث والاجتياح البطيء الذي يشابه أثره النفسي الهائل جسداً أُصيب بالشلل مرتكناً إلى منسأة تأكلها دابة الأرض، وهي دروس لا تعرف المحاباة.
وفي ما يخصنا نحن، فإن كون العرب والمسلمين لقرون عديدة منذ فجر الحضارة الإسلامية وعصر الفتوح حتى ذروة ازدهارها كانوا “أقلية في المناطق الشاسعة التي خضعت لهم”، حسب الفيلسوف المغربي عبدالله العروي، يعطينا إجابة من جوف التاريخ بأن الانسجام واستيعاب وفهم ثقافة أمة صاعدة وقوة عظمى ناهضة والانجذاب إليها هو كالجهل بها أو تجاهلها وعدم ازدرادها حينما تجد الشعوب والمجتمعات نفسها طمياً في مجرى طوفان هذه القوة وفيضانها المكتسح.
لقراءة المقال في “درع الوطن” اضغط هنا
رابط المقال: اضغط هنا
♦ مدير “حرف آند فاصلة ميديا”