منصور النقيدان
أبي إبراهيم كان من عشاق الراديو، ما كان يرتاح إلى التليفزيون؛ التليفزيون في رأيه أداة تسلية. كان طوال جلوسه في المجلس في بيتنا يستمع إلى إذاعة الرياض فقط. كان أبي يرى التليفزيون لعبةً للأطفال والحريم. كان أبي يحترم الراديو جدًّا. الراديو كان هو تقريبًا مصدر المعلومة الصحيحة؛ لا الجرائد ولا التليفزيون. إذا جلس يتعشَّى معنا ونحن صغار، كان يفتح الراديو، ونحن نشاهد التليفزيون. كان قادرًا على الإنصات من دون انزعاج، مصغيًا متمكنًا من قدرة أذنَيه على الفرز بين صوت الراديو وصخب التليفزيون. يوم تمالكت شجاعتي وأنا في عمر السادسة عشرة، كنت وقتها متدينًا متشددًا من الأتقياء تقريبًا، وقُلت له: “التليفزيون حرام”، فقال: “هذا لعبة يا ولدي، خلّ أُمك وإخوتك يستأنسون”.
أتذكر قصة غريبة بطلها أبي، حصلت لي وأنا في الثالثة عشرة. تقريبًا عام 1982. يوم لم أجد أبي. كان المجلس هدَامًا، وخشيت أن يكون والدي تحت الركام قد غادر الحياة وتركنا. أخي موسى له رواية اسمها “الهدَام”؛ لكنها تتناول حدثًا آخر عرفته بريدة والجزيرة العربية عام 1956؛ لكنني هنا أقصد هدَامًا آخر.
كان أبي يقضي نهاره كله في بيتنا الجنوبي غربي الجامع الكبير في بريدة، البيت الملاصق للمقبرة. لهذا كنا نسميه “بيت المقبرة”، بيتنا الشمالي هو الملاصق لمستوصف الشمال في شارع الصناعة على بُعد مئة متر من مسجد السكيتي. “بيت المقبرة” سكناه فقط ثلاثة أشهر، ثم أصابنا الرعب ولم نهنَأ بالعيش فيه؛ لأسباب كان منها أننا جيران المقبرة، إذا وقفت مستندًا إلى أصابع قدمي ليلًا من الدريشة والمدينة تغط في سباتها، يمكنني وأنا أطل ناحية الشرق أن أرى الوسط الممتد للمقبرة المهجورة، السكون والغموض والرهبة تجللها، والخيالات تعبث بي؛ لهذا كنت أحاول أن أغمض عينَي حين أحتاج إلى النزول ليلًا والجميع نائم، وأتفادى النظر إليها، وقشعريرة تتلبس جسدي.. لا أتذكر أن في المقبرة رسوم أجداث واضحة. كانت مهملة قديمة؛ يُقال إنها أقدم من بريدة كما سمعت. بعض المؤرخين يقولون إنها تحوي أجداث محاربين عظامًا سقطوا على مشارف الركن الغربي الجنوبي لسور بريدة القديم. حين أهبط من الدَّرج من السطح وألتفت يسارًا أراها أسفل منِّي.
قادت أُمِّي حملة إقناع أبي؛ لكي نهجر البيت ونتركه، وافق أبي أخيرًا على مضض وأن نعود إلى بيتنا القديم، بيت السكيتي، مجاورين لبيت جدتي وأخوالي وحارتنا التي ولدت فيها ذات ليلة باردة. ولكن أبي تمسَّك ببيتنا الجنوبي، فبقي لسنتَين في ذلك البيت يقضي نهاره فيه قريبًا من سوق الغنم ومجاورًا لحوش الغنم الملاصق لبيتنا، والحوش الثاني الأكبر الذي يبعد مئة متر تقريبًا إلى الغرب. أحبَّ أبي هذا البيت الذي عاش فيه عقودًا من سنِيّ عمره، وولِد فيه إخوتي من أبي الذكور كلهم تقريبًا، وكان أبي بعدها يعود مساءً إلينا ويبيت عندنا، ويمضي مع صلاة الفجر مع الظلام. كانت المسافة بين البيتَين كيلومترًا واحدًا فقط.
كنا مساء كل يوم بعد صلاة المغرب نذهب إلى “بيت المقبرة” ويكون أبي في انتظارنا في المجلس. نُقبِّل رأسه ونأخذ سطل الحليب.. في واحد من أيام الشتاء المطيرة دخلت البيت لكي نأخذ أبي، وأخي عبدالله ينتظر خارجًا، وجدت المجلس قد انهار سقفه بسبب الأمطار. أصابني الوجوم، وناديت أبي وأنا واقف على باب المجلس، لا أحد يجيب. (يُبَهْ!….. يُبَهْ!)، غشيني الرعب ورفعت صوتي، وعيناي تتلمسان شيئًا داخل الركام. كانت أجزاء من المجلس وجدرانه الأربعة سليمة. السقف كان منهارًا. طفرت دمعتان من عينَي، وهربت إلى أخي عبدالله، خارج البيت، وقُلت له: “المجلس طايح وما أدري وين أبوي”. نزل وركض، وقف أمام الحطام ثواني، ثم دخل إلى البيت وأنا أتبعه. ونحن ننادي على والدي. دخلنا المجلس الداخلي. فكان أبي جالسًا كما اعتدناه مادًّا رجلَيه، والراديو على يمينه، وإذاعة الرياض تبث كالعادة. متخذًا وضعًا كما هو في مجلس الرجال؛ ظهره إلى الشرق مسترخيًا مادًّا رجلَيه، حانيًا رأسه وكفَّاه بين فخذَيه.
كان أبي غاضبًا من أصواتنا. كان هادئًا، ما أزعجه فقط هو انزعاجنا وهلعنا، قال تعالَ خُذ الحليب، وقال: “طاح الغما من المطر وما هنا إلا الخير”، ولم يتحدث معنا بعدها قط عن هذه القصة. نجا أبي ومعه الراديو الأثير على قلبه.
رحم الله أبي.
1994، سمعت أول مرة عن راديو “MBC”. صديقي الطيب عبدالرحمن ما عرف كيف ينطقها. قال: “يوجد والعياذ بالله موجة على الراديو اسمها (إم بسي فم)”. كان اسمها غامضًا. بعد أسبوع كشف لي صديقي صالح عن أنها إذاعة تبث أغلب الوقت أغاني؛ ولهذا السبب خضع عبدالرحمن إلى جلسة توبيخ ونصح، كان توبيخًا ناعمًا؛ لأننا وقتها كنا في طور تحول، وكانت حُرمة الموسيقى ضمن مراجعاتنا.
عام 1997، كنا في سجن الرويس، وفؤاد زميلي في الزنزانة يقضي الليل كله مع الراديو؛ السماعة لا تفارق أذنَيه، تفاديًا لإزعاجنا بالموسيقى، كنت أعرف أنه يستمتع بالموسيقى والأغاني، وأقع عليه أحيانًا وعيناه تدمعان. بعدها يستلقي على ظهره، ويغطِّي وجهَه بالملاءة، وينشج. أغلبنا كنا مطاوعة نحرِّم الموسيقى. فؤاد كان قد مضى على زواجه يوم القبض عليه شهران لا أكثر، كان رقيقًا وهشًّا، وكان قد مضى عليه قرابة العام. في تلك الليالي كان يأنس بصوت أم كلثوم متخفيًا ما استطاع، وزفرات شجية مضمخة بالألم والفقد ولوعة الغياب.
ذات ليلة وزميلنا في هذه الزنزانة في (عنبر واحد) أبو يحيى، كان يتابع الأخبار عبر الراديو، فجأة جلس واستوى مفزوعًا، وقال: “ماتت الأميرة ديانا في حادث”. بعضنا تألَّم، وآخرون أطلقوا التسبيحات.. أنا اندهشت وتذكَّرت يوم زواجها وأنا طفل أتابعه على الهواء عبر التليفزيون. هذا الخبر تسبب في مشاحنة بيننا؛ لأننا خُضنا في نقاش طويل ممزوج بالمزاح: “هل كانت ديانا جميلة أم لا؟”. أحدنا قال إن السجان الطيب واسمه مبارك وهو برتبة عرّيف، يتمتع بمميزات الحلاوة والوسامة والجمال التي تفتقدها الأميرة الراحلة؛ لأن ديانا نحيفة جدًّا وأنفها طويل. الحقيقة أنا مَن قال ذلك، الجميع سخر منِّي وهزأ بي. حاولت أن أسحب حكمي هذا بعدها؛ لكنها ثبُتت عليَّ وشاعت في العنبر. أظنني قصدت من قولها الإثارة فقط، وبعدها صار صديقي جمال الدين بن الطيب، من السودان، يعيرني بهذا الرأي كلما قابلني في العنبر.
رحم الله ديانا، وأدام الراديو وأبقاه.
♦كاتب إماراتي