منصور النقيدان
بعد أكثر من ثلاثين يوماً عصفت بالقضاء السعودي، يبدو أن الأمور تتجه نحو الهدوء عبر ترضية للأطراف جميعاً، بإلغاء الحكم على السيدة التي تعرضت للاعتداء، ومضاعفة العقاب على بعض الذين شاركوا في الجريمة قد تصل إلى الإعدام، وإعادة ترخيص المحامي عبدالرحمن اللاحم بعد أن سحب منه وحدد له موعد لجلسة تأديبية أُجِّلَتْ الأسبوع الماضي من قبل المدعي العام، ويبدو أنها لن تعقد في المستقبل، بعد دخول أطراف حكومية في وساطة بين طرفي النزاع، القضاء والضحية. المدهش أن لجنة لاتنتمي إلى المؤسسة القضائية تتولى الآن إعادة النظر في الحكم، وقد تكشفت لها عيوب جوهرية في صك الحكم، وهو مايثير الفزع مرتين: عدم أهلية مؤسسة القضاء في استدراك أحكامها واكتشاف عيوبها وتحوُّلها إلى خصم، والثاني وهو الأخطر، ماهو حقيقة عدالة تلك الأحكام التي صدرت بحق أشخاص فقدوا حيواتهم عبر عشرات السنين الماضية، أو قضوا سنوات طويلة من أعمارهم خلف القضبان، ولم يكونوا محظوظين بمحام يترافع عنهم ولا بإعلام يوصل للعالم قضاياهم ويحولها إلى قضية رأي عام.
الأسبوع الماضي أصدر قاضٍ في محكمة الرياض حكماً بتبرئة أعضاء من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أوقفوا إثر مقتل سلمان الحريصي بعد أن قُبِض عليه في منزله واقتيد إلى مركز الهيئة وفقد حياته بعد إصابته بجراح خطيرة على أيدي أعضاء الهيئة. وفي الصيف الماضي كنت أتحدث إلى صديق يعمل قاضياً منذ أحد عشر عاماً، وسألته عن ممانعة القضاة في نشر الأحكام فقال لي’’ تبي العالم يضحك علينا؟ تراها تفشِّلْ’’.
أما البيان الأخير الذي أصدرته وزارة العدل- وقد تضمن خلافاً لدفاتر التحقيق واعترافات أطراف القضية تشهيراً بالضحية وتلميحاً باتهامها بالفاحشة وتصريحاً بقذفها بالخيانة – فإن مصادر من داخل الوزارة وخارجها رفيعة المستوى تؤكد أن الوزير نفسه لم يكن على علم مسبق بالبيان ، وهو أمر مشكوك فيه، إن كل المعطيات تؤكد أن ثمة كبش فداء ورؤوساً ‘’صغيرة’’ ستطير من مواقعها في وزارة مريضة مثقلة بالعلل مصابة بالدوار.
ولكننا نحن المراقبين في حاجة ماسة للتأمل طويلاً فيما وراء غبار المعركة بعيداً عن كل ذلك الضجيج، في تلك الشجاعة التي تلبست أشخاصاً عاديين لاينتسبون إلى قبائل كبيرة، ولا عشائر نافذة، ولا أوساط اجتماعية باذخة الثراء، كيف صنعت تلك الشجاعة منهم أبطالاً ملهمين للألوف الصامتين الذين أقنعوا أنفسهم بأن السلامة هي في الرضا والصمت.
ليس من شيء أكثر إيلاماً من أن تكون أسرة صغيرة على الشفير والخيار بيدها، بين أن تلزم الصمت وتقنع بالظلم والستر الذي سيكون وباله مضاعفاً في مستقبلها، أسوة بالعشرات بل المئات من أولــئك القابعين والقابعات في كهوفهم اللائذين واللائذات بأحزانهم المستسلمين خوفاً على الشرف الموهوم، وبين أن تخوض تلك الأسرة معركة طويلة في أروقة القضاء للمطالبة بالعدالة وتحقيقاً لأدنى مراتب الإنسانية وهو احترام الذات.
الكثيرون هم من خوف نبذ مجتمعهم في نبذ من أرواحهم، هانت عليهم أنفسهم فهانوا في عين الله وفي أنظار الأسوياء من خلقه، كثير من الناس هم من خشية تدنيس سمعتهم في دنس أبدي يلطخ أرواحهم ويقضي على جوهر إنسانيتهم، ويعيث نخراً في أفئدتهم وحطاً من كرامتهم، ولكن القلة هم الذين يصمدون لخوض طريق الآلام، تعاهدوا أن ينسجوا من مصابهم عبرة تحكي للمستضعفين وتروي للخانعين كيف يعيشون شرفاء رغم الأكاذيب وفوق أنف الأشرار المضلين، لقد صنعت صاحبتنا من عذابها شموعاً تضيء للمُهانات الكسيرات من بنات وطنها، وتمنحهن الأمل أن بإمكان إنسانة شجاعة منهن أن تنال ممن اعتدى عليها وراهن على صمتها ونام قرير العين آمناً موقناً أن كل أوهام الشرف والعار التي تنسجها التقاليد البالية، ستلجمها عن البوح وتحطم روحها وتطوي لسانها، ليفلت هو بجريمته.
على كل أولئك الذين دعموا وتعاطفوا مع هذه الضحية أن يعلموا أنهم في الحقيقة إنما يحمون أنفسهم وبناتهم وأخواتهم، ويعطون للمتخاذلين والشامتين أجمعين درساً في النضال من أجل العدالة. إنها الخطوة الأولى في طريق الألف ميل، ولينصرن الله من ينصره.