منصور النقيدان
لم يكن سجن الباستيل الذي اقتحمه الثوار الفرنسيون يوم الرابع عشر من يونيو 1789، يضم غير سبعة سجناء، من اللصوص ومزوّري العملة ومرتكبي الجرائم الأخلاقية. ومع أن الصورة التي حملها الثوار عن الباستيل كانت تقول إن السجناء السياسيين للملك لويس السادس عشر يعيشون أسوأ الظروف في تلك القلعة الموحشة، إلا أنهم وجدوه بعد استيلائهم عليه سجناً واسعاً شبه فارغ يضم مكتبة كبيرة للسجناء، وأقلاماً ودفاتر، وكان السجناء ينعمون فيه بنظام تغذية جيد.
سعى قادة الثورة الذين كانوا مصرِّين على أن يبقى الباستيل هو رمز الشر الذي يجب تحطيمه إلى البحث عن سجين سابق سياسي، ليكون رمزاً ثورياً يشحن العداء ضد الملك، فوجدوا ضالتهم. كان ذا تاريخ بائس ولم يكن يحظى بأي جاذبية، وأظهروه كأحد سجناء الملك السياسيين الذين عانوا صنوف الهوان.
يومها كان نابليون ضابطاً صغيراً يرقب كل ما يجري في باريس، حيث كتب أنه شعر باشمئزاز من الدماء المراقة، وباحتقار كبير للجماهير التي كانت تلغ في الدماء، وتقتل بلا رادع، وتعيث في الأرض فساداً، ولكنه كان يتحيّن فرصته في هذا الركام من الفوضى والانفلات، فحدد وجهته، وبعد أربع سنوات سنحت له الفرصة حين طلب منه أن يوقف زحفاً من آلاف المتجمهرين من أنصار الملك في ثورة مضادة، كانوا يتوافدون على مقر اللجنة الوطنية للثورة. ولإيقاف الزحف أمر بسحقهم بالمدافع وضربهم بالقنابل العنقودية، وكانت هي اللحظة التي لفتت الأنظار إليه. يؤثر عن نابليون أنه كان يقول: «وددت لو أن البشر كلهم متدينون إلا أنا». وهو يقصد أن السياسي إذا استغل سلطة الدين الروحية يمكنه أن يحصل مراده عبر التلاعب بالجمهور. وكلما رق دين السياسي كلما كان أقدر على استثمار الدين، بخلاف ما لو كان متديناً حقيقياً في العمق.
يبدو كل هذا لا معنى له اليوم. ولكن التاريخ متخم بالدروس والعبر، منها أن الأمور ليست دائماً كما تبدو عليه، أو كما يروج ويشاع، أو كما يظهره كثير من المعارضين للحكم القائم، فلويس السادس عشر لم يكن ضعيفاً وألعوبة بيد ماري أنطوانيت، وماري لم تكن ملكة فاسدة مدللة لا تشعر بمعاناة أبناء شعبها. فقد كانت فرنسا تعيش قبلها بتسع عشرة سنة تدهوراً في الاقتصاد وغلاءً معيشياً، وديوناً باهظة أثقلت كاهل الخزانة الملكية، وكان جزء كبير من هذا العبء الاقتصادي يعود إلى نتائج حرب الثلاثين عاماً التي خاضها لويس الرابع عشر، الملك المخيف المعروف بالملك الشمس. حتى المحاصيل لم تكن تفي غلاتها فارتفع الغذاء، واضطر الملك لفرض ضرائب أثقلت كاهل الشعب. ولكن إدارة لويس السادس عشر، ومستشاريه للأزمة لم تكن موفقة، فتضاعف الغضب، وشحنت الجماهير كرهاً له ولعائلته. وكان التاريخ لحظتها يمارس مكره.
وعاشت فرنسا عقوداً قاربت السبعين عاماً من الاضطرابات وعودة الملكية أكثر من مرة، ولكن الفرنسيين لم يكونوا وحدهم في أوروبا، ولم تستقر الجمهورية الفرنسية إلا بعد الثورة بمئة وخمسة عشر عاماً تقريباً.
نحن -في مجتمعاتنا الهشة الحديثة التشكل والشابة الواعدة المتخمة بالخيرات- لا نعلم الغيب، ولا يمكننا ضمان أن الفوضى والانهيار سيعقبهما بناء أفضل، ومرحلة أجمل، وليس لدينا استعداد لإراقة دماء أبناء شعبنا وتفكيك بلادنا، وإثارة النعرات والاضطرابات، لتحقيق مطمح سياسي يرتدي عمامة الفقيه، كل ما يشغل باله، حفظ حقوق المجرمين وممولي الإرهاب، والمتطرفين الذين يسعى ليجعل منهم ميليشيات تحميه، وتنقاد لتنفيذ أهدافه، ليحول بلادنا إلى صومال أو عراق آخر، أو يمن غارق في الظلمات وشبح المجاعات.
جريدة الاتحاد
الاثنين 06 جمادي الأولى 1434هـ – 18 مارس 2013م