منصور النقيدان
لولا جرأة العقل البشري على طرح الأسئلة وإثارة الشكوك، والحفر في المسلمات لما تقدم الإنسان خطوة واحدة. لولا تلك السياحة الفكرية التي كان المصلحون والموحدون في عصر الجاهلية يطرحونها على أقوامهم لما سمعنا بقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهما من العقول المتحررة التي كانت تضايق صناديد مكة وتسائلهم عن حقيقة تلك الأصنام التي يخضعون لها ويعبدونها من دون الله. حين يتحرر الفكر ويبدأ سياحته بحثاً عن الحقيقة فإن قمعه أو ترشيده ضرب من المحال.
ولهذا جاء القرآن الكريم مليئاً بالمواقف والإشارات إلى نوعية الأفكار والأسئلة التي كان يتداولها أهل الجزيرة العربية حول حقيقة دعوة الإسلام إبان ظهوره أول مرة، وصدق صاحب الرسالة، وحقيقة صلته بالسماء، واستمر الحال حتى بعد أن فرض الإسلام نفسه ولم تتوقف القصص ولا الوقائع التي تتضمن حوارات بين الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبين الآخرين. ومن يقرأ اليوم سورة الأحزاب والتوبة وآل عمران والمائدة، يعلم أن عهد الرسالة كان أكثر تسامحاً وحرية مما نعيشه اليوم.
كانت مكة بعد الجهر بالدعوة، ثم المدينة بعد التمكين وظهور الإسلام، على موعد كل فترة مع وفود من رجال الدين اليهود أو المسيحيين أو غيرهم من مثقفي الحجاز، مثل النضر بن الحارث وغيره، كانوا يطرحون الأسئلة علناً بين يدي الرسول وأصحابه، ويحضرها العالم والأمي بدون استثناء، ويساجلون ويطرحون على المسلمين ما عندهم من أسئلة وشكوك. وبعضها يبقى أثره في نفوس بعض المسلمين، ويكون أثره سيئاً، وربما تسبب بانتكاسة دينية لبعضهم، وبعضها ينقشع كالغمام، ومع ذلك كان الإسلام يتمدد.
كان الرسول يبشر بدعوته في الوقت الذي كانت الحجاز تضم متنبئين يمتلكون ثقافة واسعة، كأمية بن أبي الصلت، الذي عرف بأنه من أشهر الموحدين قبل ظهور الإسلام، وكانت اليمامة تضم متنبئاً آخر مضى على مشروعه سنوات كثيرة، وهو مسيلمة. وبعض من تلك الحوارات لم تكن تخلو من سخرية وخصوصاً في الفترة المكية، وبعضها كان ينمُّ عن عمق وإعداد وتحضير، وبعض من الأسئلة المحرجة التي انهالت على المسلمين كان وراءها بعض من علماء اليهود الذين كانوا يتواصلون بشكل مستمر لا ينقطع مع القبائل والأحياء المعارضة للإسلام. وذلك لكون اليهود هم الأكثر معرفة بمضمون ما جاء به القرآن، لأنهم أهل كتاب والقرآن مليء بالاستشهاد بما جاء به موسى، وبذم اليهود الذين حرفوا وبدلوا، وبكون القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، التوراة (العهد القديم) والإنجيل (العهد الجديد).
وفي الفترة المبكرة في القرون الثلاثة الهجرية، كانت مساجد الكوفة والبصرة وغيرهما من حواضر الإسلام تشهد مناظرات ونقاشات بين المسلمين أنفسهم بفرقهم وطوائفهم، وبين المسلمين وأصحاب النحل والديانات.
ولولا ما خاضته نخبة العقول البشرية في القرون الأربعة الأخيرة من صراع وأسئلة وتحطيم للأصنام لما تحررت البشرية، ولما غدت اليوم ما هي عليه من تقدم وتحضر. والسؤال هو أساس المعرفة، وحين يتخوف الناس من طرح الأسئلة ومواجهة الأفكار المقدسة أياً كانت، ويعصف بهم الخوف خشية الملاحقة والمساءلة فإن ذلك أمارة على أننا أسهمنا في جناية كبرى على العقل البشري، ومن يتصور أنه يمكنه أن يضع حدوداً فاصلة بين ما هو نقاش محترم، أو نقد (موضوعي) وبين ما هو (سخرية) في سعي لحماية الرموز، فإنه كمن يحاول إيقاف السيل بثوبه.
جريدة الاتحاد
الإثنين 25 مارس 2013