منصور النقيدان
صباح الجمعة الماضي كنت أقلب القنوات فاستوقفني دعاء ختم به شيخٌ برنامجه الأسبوعي، كلمات طالما اعتدت عليها منذ الصغر، ودعوت بها في الكبر قاصداً بها عدواً للإسلام مفترضاً، أو رجل مرور أوقفني على مخالفة، ولكنني حينما أصغيت سمعي إلى الدعاء قبل يومين والشيخ يردد أن (يرينا الله في أعدائنا عجائب قدرته) أدهشني ما تضمنه من وقاحة وغطرسة، لأن الداعي يظن بأن الله على استعداد لأن يرضي غروره بعقاب غير تقليدي من عنده ينزله على الأعداء، فهو لا يطلب من الله أن يكفيه أعداءه بالوسيلة التي تختارها حكمته، مثلما تروي لنا كتب السنة أن الغلام المؤمن عبدالله بن الحارث حينما أراد النمرود قتله دعا ربه قال (اللهم اكفنيهم بماشئت).
بل إننا نطلب فوق ذلك انتقامه من أعدائنا حسب العرض الذي نختار تفاصيله، فنحن نطلب في الدعاء عرضاً مدهشاً تظهر فيه لأجل خواطرنا عجائب قدرة الله، لأننا نستحق هذا التدليل وهذه المتعة، ربما لأننا نشعر بالملل والرتابة التي يسير الله بها كونه، ولم يعد يرضينا أي شيء في زمن الإنترنت والهاتف المحمول، وربما لأن الآيات والمعجزات قد ختمت مع آخر الرسل، وبما أن كرامات المجاهدين الأفغان لم تتكرر ثانية ولم يعد لها من البريق مايستهوي المغفلين، فلا أقل من أن نستمتع بعرض مدهش ضد أعدائنا الذين يزعجوننا، فنحن لانطلب أن تتجلى عجائب قدرة الله في انتظام أحوالنا وائتلاف مجتمعاتنا ورفع مستوى تحضرنا، بل نريدها أن تتجلى في عروض دموية ساحقة لكل من يخالفنا أو يناقض مصالحنا.
تأتي هذه التفاصيل أحيانا كما في الدعاء الذي كثيراً ماكرره الشيخ الكويتي أحمد القطان في خطبه في الثمانينات عن الفنانين وعفنهم والعلمانيين ودنسهم واليهود ورجسهم بأن (يظهرهم الله في الطرقات مجانين يتلاعب بهم الصبيان)، أو كما في دعاء نشره عبدالله غلام العام 1990 حينما تعرضت مدن سعودية لصواريخ سكود العراقية، فقام إمام المسجد هذا بنشر دعاء من أربع صفحات يخص صدام بمئة واثنين وتسعين عقاباً مبتهلاً أن يقوم رب العالمين بتحقيقها دفعة واحدة، مع أن واحدة منها إذا تحققت فلا يمكن تصور تحقق الأخريات، لأن المدعو عليه حينها سيكون في عالم الفناء، وقد خصص منها عشر عقوبات لأعضاء صدام التناسلية كالحصر والعقم وغيرها.
ومثلها أدعية نسمعها أحيانا ضد كاتب أو مفكر أو ممثل أثار غضب المطاوعة، فمن على منبر الجمعة أو في برامج الفتاوى، يأتي الدعاء متضمناً أن يتخذ الله الإجراء اللازم تجاه عدو الدين هذا، محصوراً في خيارين: إن يهديه أو أن يقصم ظهره، وأحياناً تكون أكثر تحديداً ( اللهم اهده وإن لم ترد هدايته فاقصم ظهره)، مع أن الحلول تحتمل أكثر من خيارين، لكن الداعي يريد أن تتدخل يد الله وفق رغبته هو.
ومثلها حينما نسمع تلك الأدعية التي تشترط أن ينزل الله العقاب عاجلاً غير آجل فينضاف شرط آخر إضافة إلى الرغبة في وقوع الانتقام ونوع العقوبة المحددة، وهو أن تكون العقوبة عاجلة غير آجلة، ربما لأن الانتظار يأكلنا كما أنه مثير للقلق ومسبب للإحباط، وبما أن الله لنا وحدنا من دون الناس أجمعين، وامتيازات الإجابة مقصورة علينا، ولنا الأولوية على من عدانا، ونحن فوق ذلك مذلون ونشعر بالحسد تجاه الأمم الأخرى التي تجاوزتنا، وفضائحنا أمام العالم تنشر كل يوم، فلا أقل من أن تراعى خواطرنا، بعقوبة تسكن مايجيش في صدورنا، فالداعي حينما ينفث كلماته يعتقد في اللحظة نفسها أن حكمة الله قد تقتضي تأجيل العقوبة أو عدم وقوعها أصلاً، لهذا فهو يتدارك الوضع فيؤكد رغبته كالطفل الذي يضرب بيده على الطاولة ويقول: (لا. أبغاك تعاقبه، والآن، الآن).
فقهاء المسلمين ومتكلموهم تعرضوا لحكمة الله في القدر والدعاء، ومنها مايسمى ”الاعتداء في الدعاء” وهو أن يتضمن الدعاء مالا يتصور وقوعه كوناً، مثل أن يكون الدعاء بإهلاك غير المسلمين عن بكرة أبيهم، لأن الله خلقنا مختلفين ولا يتصور أن تخلو الأرض من غيرنا، وكم سمعنا من أكبر مساجد المسلمين مثل تلك الأدعية.
في صغري كنت أتفادى إثارة غضب عجوز كانت تبيع في بسطتها على أبناء حارتنا الحلوى وعصير التوت المجمد، كنت أخشاها لأنها كانت متى ما أزعجها صبي منا تستقبل القبلة وترفع يديها ولا يقنعها إلا أن ترى الأشقياء تحت ”كفرات تريلة”. إن الذي يطالع سير كثير من المتصوفة المسلمين الأوائل ليصاب بالدهشة من تلك الرقة والرحمة التي كانوا يحملونها بين جوانحهم تجاه من يصفونهم بالعصاة، والمسرفين على أنفسهم حين يقول أحدهم (كم من إنسان غير مؤمن وهو في اللوح المحفوظ حبيب الله)، وهذا ما نجده اليوم بشكل مقارب عند كثير من أتباع جماعة التبليغ، وإذا كان أولئك المتصوفة الأوائل قد تعرضوا لضربات قاصمة ووشايات من أهل الحديث ومضايقات من سفهائهم، فليس من الغريب أن نقرأ عن واحد من أهل الحديث زار أحد خصومه بعد أن أصابه الفالج، ليقول له وهو على سريره :إنما زرتك شامتاً لا عائداً، وهم يقررون في كتب العقيدة أن أتباعهم إذا قعدت بهم ذنوبهم من اللواط ، وإدمان المخدرات واغتصاب الأطفال وقطع الطريق، رفعتهم عقائدهم وتبعيتهم لأئمتهم من أهل السنة والأثر ومنحتهم الأفضلية على خصومهم الذين مهما رفعتهم أخلاقهم الفاضلة ورحمتهم بالخلق وزهدهم في الدنيا وشجاعتهم في كلمة الحق قعدت بهم ميولهم الفلسفية وآراؤهم العقلية وثقافتهم التي نهلوها من علوم الأمم الرفيعة. يدهشني أن الذين لايملكون إلا سلاح الدعاء وهو”سلاح المؤمن” و”سهام الليل” لا يترددون في استخدامه بأقصى ما نتصوره من العنف ضد خصومهم، فكيف لو كانوا يملكون سلاحاً مادياً فهل سيكونون أقل عنفاً؟