منصور النقيدان
من الحكمة أن نروض أنفسنا في محاولة لرؤية الوجوه الأخرى للأشياء المحببة إلينا وتلك الأخرى التي نشعر بالنفرة منها ونمتعض من مجرد رؤيتها أو ما نحن مضطرون إلى اتخاذ موقف إزاءه سلباً أو إيجاباً، حيث كل ما يحيط بنا يدفعنا نحو إعلان قبولنا أو رفضنا بترويض النفس على محبته أو ادعاء الغبطة به، وما أكثر ما قمنا باتخاذ مواقف نعلنها للملأ هي في الحقيقة أكثر تشدداً مما يقبع في دواخلنا التي تحاول التواؤم بين المعلن والمبطن في محاولة بائسة للتعايش مع ذلك الفصل ورتق ذلك الشرخ. كثيراً ما يكون مجرد القول إن علينا أن ننظر إلى الأشياء التي أصبحت ثوابت اجتماعية أو ثقافية أو قومية من منظور مختلف جريمة وإثارة للفتن وتحريضاً على التمرد. هذا ليس تحريضاً، هذا حديث عن احترامنا للعقل أعظم الهبات التي ننعم بها، ولن يكون الله راضياً عنا حينما نردها إليه بقراطيسها، بعد أن أخفقنا في استثمار منافعها، لقد كان عبؤها كبيراً وأمانة أبت السموات والأرض أن تحملها فاعتقدنا أن الأدب وغاية اللباقة أن نبقيها كما هي ونردها إلى واهبها محشوة بالخرافات وقليل من المعارف المشوهة وإتقان بعض المهارات والتفاهات والحيل التي تجعلنا نعيش كالبهائم وتضمن لنا الاستمرار في الوجود كالبعارين، فيكون مثلنا كذلك البدوي الذي فاخر في مزاد السيارات أن أكبر دليل على نظافة سيارته أنه لم يستخدم النقال الرابع قط، وأنه لم يقم بتغيير زيت محركها المعتق منذ أن اشتراها قبل ثلاث سنوات، ولو كان يعلم لأدرك أن ذلك سبب تلفها ودمارها.
بإمكان مخيلاتنا أن تتصور حواراً بين الله وبين الإنسان أوسع أفقاً وأكثر تحضراً وتقديساً وإجلالاً لخالق الكون الأعظم. ألم نفكر ولو للحظة واحدة أنه قد يسألنا على نحو آخر، نحو غير تقليدي؟ كيف ستكون إجابتنا حينما نقف بين يدي الله ويسألنا «لماذا لم تستثمروا ما منحتكم إياه من الحكمة والفهم لتعرفوا أنكم أقدر على التفوق من أولئك الذي سيطروا على التاريخ وعبثوا بعقول الأمم آلاف السنين؟ كيف انطلت عليكم الأغلوطة بأنني حرمتكم الحكمة ومنحتها لسلالة قبيلة أو شعب؟ في القرن الحادي والعشرين كانت شعاراتكم عن المساواة واحترام حقوق الإنسان، فكرمتم مانديللا وتعاطفتم مع المنبوذين، وناديتم بحقوق المرأة، ولكنكم ظننتم أنني أقل عدلاً وأكثر محاباة حينما خدعتم أنفسكم بأن أقلية منكم يحظون بمعاملة خاصة من لدني ومواهب وقدرات لن تتكرر مع غيرهم عبر العصور؟ إنني لأعجب أنكم شاهدتم أفلام الماتريكس في الوقت الذي تعتقدون فيه أن الشيخ أو الحاخام أو البابا والصوفي والساحر والعراف والمتنبئين قد سرقوا شيئاً من قوى السماء، واستطاعوا خداع القوانين التي أودعتها في الكون.. هبوا أنكم أقنعتم أنفسكم بأنكم قرأتم كلماتي المكتوبة، فكيف غفلتم عن كلماتي الكونية في الذرة والفضاء والحواسيب؟ ألم يَشِ ذلك لكم بأشياء أخرى؟ ألم يُحدِثْ ذلك زلازلاً في كهوف عقولكم؟ كيف تصورتم أن كلماتي الكونية التي تتكشف يوماً بعد يوم محدثة أكبر التحولات في قصتكم البائسة وسيرتكم عبر حقب التاريخ يمكن أن تنسجم مع الخزعبلات المفعمة بالكره والثارات ورائحة الدماء وأحقاد القبائل؟ أصدقتم حقاً أن نواميس الكون وقصائدي التي أودعتها نظامه المدهش ستناقض كلماتي السمعية لو كان ذلك؟».
نحن نحتاج دائماً إلى التوقف كثيراً والتأمل ومنح أنفسنا فترات عزلة تسمح لنا برياضة نفسية تمكننا من الشجاعة وإعادة التفكير في كثير من المسلمات التي تواطأت عليها الأجيال وأصبحت إرثاً يصعب مجرد الحديث عن إعادة التفكير به، هلا فكرنا بأن الأناة والبرود في التعامل مع الأشخاص والحوادث وإحكام جماح النفس حتى لا تبلغ نهايتها منساقة خلف عواطفها، قد يجنبنا كثيراً من الكوارث؟ أعتقد أن كثيراً من الحروب التي اتخذ الملوك والرؤساء والقادة قرارها كان يمكن ألا تقع لو أنهم منحوا أنفسهم ساعات أو أياماً من التفكير، صحيح أنه مما يجعلنا بشراً أننا محتاجون إلى سخونة المشاعر وحرارتها، فبهذا العته الذي يتجسدنا نحب ونعشق ونقاتل بكل بسالة وندافع عن الوطن، ونهلك أرواحنا فدى لعيون من أحببناها.
أحياناً، يكون هذا الحمق الذي يسير التاريخ ويدير دفته هو الذي يسيطر على الشعوب في لحظاتها التاريخية ويغشاها كالشياطين فتندفع بالخداع واللعب على المشاعر القومية وإثارة النعرات حتى يذهب الملايين ضحايا وأدوات تنفذ رغبات العقول الكبيرة ويندفع المحرومون والمقصون والمهمشون الذين لم يروا خيراً قط من حكوماتهم في إهلاك أنفسهم لصالح من همشوهم. وذلك سر بني الإنسان.