منصور النقيدان
نحن منهكون دائماً بالحديث عن القادة والعقول التي تدير عالمنا، معنيون نحن بتصحيح أخطائهم وبتقويم سلوكهم وبمراقبة فجورهم وإهلاكهم للحرث والنسل، لقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم وبانصياع الشعوب لهم وتحقيقها نزواتهم. نخبة عقول البشر من سياسيين ومفكرين وعلماء ومثقفين هم مصدر عذابنا، وهل هناك أكثر بؤساً منا؟ الأرض تنقص من أطرافها، حينما تناقصت حكماؤها، وسادت سفهاؤها وعاثت خراباً بأرضنا التي ندرج فوقها، وسمائنا التي نلتحف نجومها. لقد عرفت منذ مراهقتي بعضاً من العقلاء المتميزين الذين بإمكانك أن تقترب منهم وتسامرهم وتشعر بالطمأنينة معهم والثقة بأنه لا أحد منهم سيخدعك أو ينصب عليك، ربما عليك فقط أن تقوم أنت نيابة عنهم أحياناً بالفصل بين الحقيقة والخيال، بين آمالهم وواقعهم، بين أحلامهم المتعثرة وأوصاب قلوبهم المدنفة، وتقوم مع بعضهم بمساعدته على ترتيب كلماته المبعثرة التي نفثها إليك، أو إيجاد تراتبية منطقية تبني بها الفكرة التي يريدون إيصالها.
كان منهم فئة إذا لزمت غرزها وكنت كالمريد بين يدي الشيخ ستجد من بين ركام كلماتهم حكماً لا ينطق بها إلا الأنبياء والحكماء، مثل يوسف النافع الذي وقف يوماً أمام المصلى الكبير جنوب بريدة، وبعد انصراف الناس من صلاة الاستسقاء، قاموا بقلب بشوتهم وغترهم وجعلوا بطانتها مما يلي السماء، تفاؤلاً بأن يقلب الله حالهم من الجدب إلى الغيث، فقال بأعلى صوته «اقلبوا قلوبكم، ولا تقلبوا بشوتكم».
كان يوسف مهموماً باستجلاء أيادي الإنسان الملطخة بالفساد والذنوب التي حملت السماء على أن تمنع قطرها عن العباد، كان دائماً يبحث عن إنسان يتجسد به الشر ليمكننا الخلاص منه قرباناً لتعود أرض الجزيرة مروجاً وأنهاراً. ذات مرة توضأت لأداء صلاة المغرب في مسجد الحميدي جنوب بريدة ورأيته واقفاً خارج المسجد أمام العتبة، يستجلي وجوه الداخلين ويتمعن فيها، وحين اقتربت منه وهممت بدخول المسجد صرخ بأعلى صوته وقال «إنه هو. هو، هذا الذي منع الله عنكم المطر بسببه» التفتُّ إليه مذعوراً، فإذا به يشير إليّ، كان عابس الوجه، لم يلقِ له أحد بالاً، أصابه اليأس ثم مضى.
كنتَ تجدهم يطلبون الرزق في سوق وسط البلد في الوسعة، وفي سوق الخضار، وفي الجردة، وفي صلاة الجنازة في الجامع الكبير. وبعضهم يعملون في تنظيف المساجد، أو خدمة القضاة وكتاب العدل، كثير منهم لا يتخلفون عن الصلاة في الجماعة، ويحافظون على صلاة الفجر، ويقوم بعضهم بالوعظ في مساجد المدينة أو في القرى، مرشدين قطعان البشر الهائمين على وجوههم، كان أبوعلي أحدهم وكان يوبخ الناس على الإسراف في الأطعمة ورميها في القمامة، وبحرقة لا نظير لها طالب مراراً بألا ننسى ماضينا وتاريخنا القريب، وألا تغرنا المدنية وننسى مراكبنا الأولى، كان يذكّرنا دائماً بأن علينا أن نكون أوفياء للحمار، أسِفاً كيف هجرناه وأهملناه، في وقت كان يجب علينا أن نقوم برعاية هذا المخلوق الرائع الصبور والحرص على تكاثره واستمرار نسله، لهذا السبب كانت بلدة قصيبا شمال بريدة تحتل مكانة في سويداء قلبه لا تضاهيها أي بقعة أخرى ليس لأنها فقط مسقط رأسه، بل لأنها موطن معظم الحمير التي كانت تجلب للمدينة للمهنة والركوب، قبل طفرة النفط، قصيبا كانت مغناطيس أفئدة حمير المنطقة ومهوى أفئدتها ومرابعها الأولى، ولا تسل عن أحزانه وهو يحكي لك قصص مآسيها بعد أن هجرها الناس، وغدت هائمة على وجهها.
طالب أبوعلي مراراً وعلى مدى سنوات بأن نتبرع من جيوبنا بشراء الأشرطة الفسفورية البراقة حتى لا تذهب تلك المخلوقات المسكينة ضحية حوادث السير على الطرق السريعة ليلاً، لحفظ أرواحنا أولاً وللحؤول دون فناء ذلك المخلوق الحزين، وجهة نظره هذه سمعتها منه العام ,1987 وحين أصيب بخيبة أمل من الناس لم يتردد في أن يقوم بزيارة عدد من أمراء المناطق وآخرين من أصحاب القرار في محاولة منه لشرح ما آل إليه حال الحمير، مطالباً بإنشاء جمعية لحمايتها، وفي الحالات النادرة التي أفلح في الولوج إلى مجالس ولاة الأمر وقام بشرح وجهة نظره وإدهاش مخاطبيه وإجبارهم على الضحك، كان يعود إلى أهله محملاً بالهدايا والشرهات، ولكنها كانت تتبخر في يوم واحد حينما يقرر أن يشتري مشلحاً بخمسة آلاف ريال من سوق المعيقلية في الرياض ليبيعه صباح الغد في سوق المجلس ببريدة بسبعمئة ريال، ويصرف ما تبقى في طلعة برية مع بضعة عشر من أصحابه، لكن أكثر خطبه إثارة هي تلك الكلمة الشهيرة التي ألقاها في مسجد الصايغ العام ,1985 منذراً بأن المسيح الدجال قد ظهر، ولكنه زف البشرى للمصلين وطمأنهم بأن المسيح ابن مريم له بالمرصاد، معلناً بأنه الآن منشغل بتناول القهوة في منزل عائلة الجريش في الشقة السفلى، وبعدها سيتفرغ لسحق الدجال.
كانوا يستجيبون لأية دعوة عرس أو وليمة توجه إليهم، وكان عندهم من اللباقة والحياء ما يمنعهم من دخول وليمة لم توجه إليهم دعوة حضورها، بعضهم يختار أن يطوف قريباً من باب الدار في أبهى لباس وأنضر صورة، وهو يذكر الله ويدعو لك بسعة الرزق وطول العمر، وحينما تراه يرمقك بعينيه المنكسرتين سيغلبك الخجل وتدعوه مرغماً، غالباً ما كانوا يشاركون في تشييع الجنائز والدعاء للميت بعد دفنه دعوات مخلصة، وهل سيستجيب الله إلا لهم؟ أو هل هناك ما هو أكثر طهراً من قلوبهم؟ لم يكن فيهم حليق أو مدخن أو من عرف عنه الاعتداء على أحد من الناس أو التحرش بامرأة. بعض من أولئك المسالمين الذين اختار بعض أقاربهم أن يخضعوهم إلى العلاج النفسي اختفت منهم تلك الهالة وذلك الإشراق على محياهم، وتلاشت تلك الحكمة التي كانت تنطقها طيور أرواحهم. وكالعصافير تماماً حين توصد عليها الأقفاص كانوا يفارقون الحياة بعد برهة قليلة من إيداعهم المصحات وكأنهم أبناء الطبيعة التي أفسدتها يد الإنسان.