منصورإبراهيم النقيدان
كان المأمون الخليفة العباسي واحداً من عظماء ملوك الإسلام علماً وحلماً وحزماً وعقلاً، غير أنه كان معتزلياً يعتقد بخلق القرآن، ولقد هم قبل وفاته بسنوات أن يظهر ذلك ويدعو إليه ويمتحن الناس عليه، ولكنه خشي انقلاب أهل الحديث ووقوفهم في وجهه، غير أنه عاود ذلك أخر أيامه، فأعلن معتقده ودعا إليه وكتب إلى الأمصار بذلك، وأمر باستجواب القراء منهم، فمن أجاب أخلا سبيله ومن أبى أو رد حُمِل إليه. ومن اطلع على شيء من رسائل المأمون وكتبه التي بعث بها إلى الأمصار أدرك منزلته من العلم ومرتبته في الكلام وقدرته على الحجاج والمناظرة. لقد كان متفلسفاً وممن عني عناية كبيرة بترجمة تراث الأمم ونقلها إلى العربية.
دشن أبو جعفر المنصور مشروع الترجمة وأكمله المأمون من بعده، كان أبو جعفر المنصور صديقاً حميماً لعمرو بن عبيد المعتزلي العابد الناسك الورع، ولكن الأخير قطعه بعد توليه الخلافة، وكان المنصور محباً له معظماً لقدره، ولما حذر المنصور عمراً وخوفوه من خروجه عليه، قال: إنني أعرفه. إنه لن يخرج حتى يكون معه مثل نفسه عدد أهل بدر.
المقصود أنه تم الاستجواب وابتدأت المحنة فكان من أوائل من أصابته الإمام أبو مسهر الدمشقي الذي عرض على السيف مرتين، وتوفي في حبسه رحمه الله، وكان ممن حملوا إلى المأمون ولم يجب أحمد بن حنبل .
ثم توفي المأمون وأحمد في طريقه إليه فولي الخلافة من بعده أخوه المعتصم، وكان ذا دراية ومراس بالحروب والمعارك وصاحب سيف، ولاحظ له من العلم والمعرفة، ولكنه كان محباً لسلفه المأمون مقتدياً به، فسار سيرته واستمرت المحنة، وأوصى المأمون أخاه المعتصم بأحمد بن أبي دؤاد وأثنى عليه وحذره من قاضي القضاة يحيى بن أكثم وأوصاه به شراً.
وتولى ابن أبي دواد منصب قاضي القضاة أول عهد المعتصم واستمر فيها بضع عشرة سنة طوال خلافة المعتصم ثم الواثق من بعده وفترة من حكم المتوكل، كان ابن أبي دواد من مشايخ المعتزلة، وقال فيه أحمد لا أعرفه بالعلم، وقال فيه أيضاً لم يكن ذا علم بالحديث ولا بصر في الكلام .
كان ابن أبي دؤاد في عين المعتصم كل شيء يأخذ بمشورته ويعتد برأيه وينقاد له، وكان ابن أبي دؤاد سيداً شريفاً نبيلاً، وكان من رجالات الإسلام، وكان كارهاً لقتل أحمد بن نصر الخزاعي زعيم المطوِّعة، ولما عزم الواثق على قتله حاول ثنيه ولكن نفذ القضاء.
كان أهل الكرخ من أكثر الناس عداءً لابن أبي دؤاد يلعنونه ويتعصبون ضده ويكفرونه، فلما احترقت حوانيتهم وتلفت أموالهم اهتم لأمرهم وأزعجه مصابهم فقام بشأنهم وحمل المعتصم على تعويضهم عما فقدوه من تجاراتهم فنفس الله به كربتهم، وتحمل في ذلك ديوناً لأجلهم، فكان من بعد أحب الخلق إليهم ينافحون دونه ويظهرون حبه, ولا يرضون فيه قدحاً ولا ذماً.
وكان محباً لصحابة رسول الله معظماً لقدرهم باراً بأبنائهم وكان شخص من ذرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مؤذياً له لا يكف عن سبه ولعنه فاحتاج ورفع حاجته فكان ابن أبي دؤاد شافعاً له وقضى حاجته.
إنسان بمثل هذا التسامي والتسامح والتجاوز عن أعدائه وشانئيه، أيعقل أن يشير على الخليفة أن يمتحن من وقع من المسلمين في يد العدو فإن أجاب بخلق القرآن دُفِعَ فداؤه وفُكَّ أسره وكوفئ بدينارين وإلا ترك بيد العدو.
كان ابن أبي دؤاد بحكم منصبه أظهر الوجوه وأكثرها حضوراً في محنة خلق القرآن، وكان من رجالات المعتزلة ممن لفهم مجلس الخليفة من كان أشد منه تعصباً وعداء وأكثر تأليباً، اعتزل بعض مشايخ المعتزلة المحنة وأنكروا على ابن أبي دؤاد وقاطعوا مجالس الاستجواب كجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر. واتخذ ابن أبي دؤاد علي بن المديني ـ وكان من أقران أحمد وأكبر منه سناً، ومن أعلم الناس بالحديث والعلل وعلماً من أعلام السنة والحديث والأثر ـ مستشاراً له يرجع إليه في الحديث ليستعين بما عنده في المناظرة مع ابن حنبل وغيره، فأغدق عليه الأعطيات، وأسبغ عليه الأموال والتحف، وكان ابن المديني يصلي خلفه، ولكن بعد أن رفعت المحنة اعتذر بأنه مكرهاً. ثم ولي الواثق بعد المعتصم، فمنع الكلام في القرآن ولم يمسَّ أحد بسوء، وكان الواثق ذا علم ودراسة ومعرفة، ثم ولي الخلافة من بعده المتوكل، فرفع المحنة وألان الجانب مع أهل الحديث ومكنهم من تعليم الناس وأحسن استقبال أحمد بن حنبل، ولكنه لم يكن على صفاء، إذ كانت تجلل علاقته بأحمد الريبة وتظللها الشكوك، فلقد منعه من الحديث والاجتماع بالناس فترة، وأمر بتفتيش بيته بحثاً عن العلوي المزعوم، فدوهم بيته وفتش حتى النساء.
أبقى المتوكل ابن أبي دؤاد في منصبه ثم غضب عليه وصادر أمواله ولما فلج أعفاه وولى مكانه ابنه محمداً، وكان تغيره عليه لما نمى إليه من أنه يميل إلى الأمويين، فلم يعرض له المتوكل بأذى ولم يمسه بسوء.
كان المتوكل ناصبياً مبغضاً لأهل البيت كارهاً لعلي خاصة وهو الذي أمر بتسوية قبر الحسين والاعتداء عليه، وهو الذي استباح دمشق فسفكت الدماء وانتهكت الأعراض.
لقد أحل أحمد كلَّ من أذاه حتى المعتصم الذي أمر بتعذيبه إلا من كان مبتدعاً، وهل كان المأمون والمعتصم والواثق إلا معتقدين لخلق القرآن وهي شر البدع!
أفتى ابن حنبل بكفر بن أبي دؤاد لما سئل عنه، ولا أدري ماوجه تكفيره له ( لقد كانت أفكار الخوارج والمعتزلة والمرجئة والأشاعرة تمثل لي لغزاً محيراً كيف نشأت وكيف تسربت إلى عقيدتنا؟ فإذا هي نتاج صراع سياسي، فكل فريق سياسي يحتاج إلى سند فكري يحشد الأنصار ويبرر المواقف وينتصر فريق ويهزم آخر فتتطور الآراء لتبرير ذلك وتنشأ آراء أخرى لتعزيز مواقف أخرى .. وهكذا.
ثم مضى الزمن فتطورت الآراء وغذتها التحولات الحضارية وممارسات السلطات القائمة، حتى وصلت إلينا أفكاراً مجردة خالصة، فنحكم عليها دون النظر إلى الواقع الذي نشأت فيه ملبية لمتطلباته.
وهكذا الأشخاص الخلفاء والعلماء والشعراء، يأتون إلينا لوحات منقوشة بالأعمال والأقوال فنصدر أحكامنا على تلك اللوحات، ونتخذ من تلك الأعمال والأقوال حججاً وأدلة نصارع بها، ونصارع من أجلها، دون النظر إلى الواقع الذي قيلت فيه وعملت من أجله ونكتشف أخيراً أن الأمة كلها بأفكارها ومناهجها ومبادئها ضحية لوقائع سياسية وأهواء وخلافات مذهبية صبغت تاريخها وصاغت نظمها الفكرية وأدواتها المعرفة).
لقد كان الإمام الفقيه العظيم أبو حنيفه النعمان بن ثابت الكوفي أحد أئمة السلف ورابع الأئمة المتبوعين وواحداً ممن قالوا بالإرجاء وممن عرف عنهم القول بخلق القرآن. أثنى عليه الأئمة الكبار وتلقته الأمة بالقبول، ولم يكن قدح من قدح ليغض من قدره وينقص من منزلته، أثنى عليه أبو عبد الله أحمد بن حنبل لشيباني .
وأما ابن تيميه وابن القيم فإن لهما في النار وفنائها قولاً هو أعظم من القول بخلق القرآن وظلا كما كانا إمامين من أئمة الدين علماً وعملاً وتقى وصلاحاً وعلمين من أعلام الإسلام.
أطلق ابن حنبل أقوالاً وآراء غدت من بعده عقائد لا يرقى إليها الشك ومسلمات لا تناقش.امتحن الناس بها ولازالوا، آراء يحتج لها ولا يحتج بها ويستدل لها ولا يستدل بها فضلل وبدع من توقف في خلق القرآن ووكل علم ذلك إلى الله فعده شراً من الجهنمية ،ولا أدري ما حجته وربنا سبحانه يقول : ” ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا “.
وقال في مسألة اللفظ بالقرآن قولاً عجباً فأوذي كثير بسببها ونال البخاري ومسلماً وغيرهما الاضطهاد والتضييق من جرائها ، وأحمد بن حنبل هو الذي أوصى أحد أصحابه أن لا يقول بمسألة ليس له فيها إمام، ولما سئل عن مسألة في الفرائض توقف فيها لأنه لا يعلم في ذلك شيئاً عمن سلفه، ولأحمد ولغيره ممن سبقه أو لحقه في وصف البدع وأهلها وأهل الأهواء والضلالة وأورثوا آراء في حكم التعامل مع المخالف ممالا يفصل فيه نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت، أرثوا أقوالاً سرت إلى عقول الأمة وسلطها العامة سيفاً مسلطاً على كل باحث عن الحقيقة أصيل الفكر نابذ للتقليد .
أكان السلف الصالح أفراداً ورهطاً من الناس تتعبد الأمة بأقوالهم وتفصل عقولها وأفهامها ومداركها على قياس عقولهم وأفهامها ومداركهم وتجمد معارفها وعظماءها وعباقرتها والمبدعين من أبنائها بمعاييرهم وموازينهم.
هل كان أحمد بن حنبل هو الوحيد الذي ثبت في محنة خلق القرآن دون غيره، لم بولغ في التعظيم لموقفه وأقواله وأحكامه التي أطلقها على الآخرين ممن أجاب أو توقف.
لم هضم الآخرون الذين لايقلون عنه ثباتاً وتعظيماً للنصوص وعلماً وفقهاً في الدين وصدقاً كأحمد بن نصر والبوطي وغيرهما .
هل كان المتوكل، أوهل كانت السياسية هي الفاعل الحقيقي والموجه والمؤثر في توجيه أنظار الناس إلى أحمد وتعظيم موقفه.
والسؤال الأكبر هل كان موقف أحمد يستحق كل ذلك وهل كان مصيباً في أحكام الكفر التي أطلقها على الخصوم بأعيانهم وهل أصاب في تبرئة الخلفاء الثلاثة؟
وهل كان ابن أبي دؤاد حقاً شراً ممن أمر وضرب وسجن من الخلفاء وامتحن الناس بالقرآن ؟
وهل كانت المسألة برمتها عقدية أم سياسية في المقام الأول واتخذ الدين من قبل المأمون ومن خلفه ستاراً وذريعة لضرب الطرف الآخر ؟
وهل كان مرد ذلك إلى أن المعتزلة كانوا أولى بمقاليد الحكم وإدارة الدولة والقيام بشئون العامة، والتاريخ حاكم في ذلك ؟
أفكار قد لا تكون جديدة وأسئلة قد تكون عند البعض جريئة، ولكنها أحرى وأولى وأصلح وأنفع من إجابات معلبة مكابرة.
جريدة الحياة 22/2/1999