ليلة الحادي عشر من مارس 2011 وإعلان مظاهرات «حُنين»، رفع المرحوم الأمير نايف بن عبدالعزيز الذي كان وزيراً للداخلية السماعة على أكبر مسؤول أمني في المملكة، وسأله: «يا عبدالعزيز، أتظن أن شيئاً سيحدث؟ فأجابه: إننا حديقة محاطة بالحرائق، ومن منا لا يسلم من كل هذا الشرر المتطاير؟!».
حين كنت في الثانية عشرة سمعت أول مرة عن تعدي أمير راحل على أرض يمتلكها اثنان من جيراننا. كانا مضطرين أن ينتظرا شهوراً حتى يؤذن لهما بلقاء الأمير الذي وقع التعدي باسمه ومن حاشيته، مضت شهور طويلة وهما واقفان أمام قصره، حتى تمكنا من عرض مظلمتهما عليه، وكانا يائسين من أن يقاضياه، قلقين مما قد يواجههما، فرد حقهما مرهون بنزواته ورغبته. كثيرون انقضت حيواتهم يلهثون خلف حق وأرض وأملاك اعتدي عليها، ومنهم من لقي الله مفلساً مكسور القلب، بعد أن فتكت بهم الأمراض والآلام جراء ما حاق بهم.
في مثل هذه الظروف تولد الثورات، وتنتعش الاضطرابات وتكثر الجرائم والسرقات، والفساد.
ليلة الأحد الماضي شهدت السعودية تطورين خطيرين، تدمير صاروخ فوق سماء العاصمة الرياض، وإعلان إيقاف مجموعة من الأمراء والوزراء ورجال الأعمال بتهم الفساد وغسيل الأموال والرشوة، وكان شهر سبتمبر الماضي قد شهد إيقاف عدد من القضاة بتهم فساد ورشاوى.
التطورات الأخيرة في السعودية مثيرة للغاية، في بلد لا ينفك منذ تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود الحكم في يناير 2015، يدهش العالم، تسارع في الإصلاح يغري بمزيد من الأسئلة، وإرباك فئة ما زالت عالقة في الماضي، ويقلق من لا يرى نفسه في مستقبل المملكة، وفي الآن نفسه يخلق ركاماً من الأساطير. لم يسبق أن رأيت الشعور بالثقة والتفاؤل في عيون السعوديين شباباً وكهولاً وشيوخاً مثلما ألحظه الآن.
هناك ما هو أكبر من أن ترفل في بحبوحة من العيش، وأن تتفوق في عملك وتنجح في وطنك، هناك صمام أمان وأساس استقرار في كل مجتمع، هو شيء يتسبب بخلق الأحقاد والاضطرابات، وازدياد الجرائم، وسهولة الخيانة، ويجعل من المواطن عرضة ونهباً للمؤامرات، وأداة يمكن التلاعب بها، ويحول كل مشاعره السلبية نحو تدمير الذات، إنه الشعور بالأثرة وغياب العدالة، والعجز عن نيل الحقوق، حينما يتعرض المواطن للاعتداء من قبل أمير أو مسؤول أو وزير نافذ مسلَّط، في مثل هذه البيئة المريضة يشعر القاضي نفسه بالقلق من النظر في الدعوى المرفوعة، ويواجه صاحب المظلمة التهديد والتضييق والندم أنه فكر في رفع عقيرته في وجه الظلم.
يقال إن واحداً من تجار دمشق في القرن الثاني عشر الميلادي لجأ إلى الفقيه الحنبلي أحمد بن تيمية، بعد أن أخفقت كل محاولاته في نيل حقوقه من حاكم مملوكي، كان يغري خدمه وعبيده بأذيته وضربه كلما طلب لقاءه لاستيفاء حق له عند الحاكم. وحين دخل عليه ابن تيمية قال له: «إذا رأيت الفقير بباب الأمير فبئس الفقير وبئس الأمير»، قاصداً أن ابن تيمية كان طالباً لحاجة أو عطاء. فأجابه الحنبلي: «إن موسى كان خيراً مني، وفرعون كان شراً منك، ولم يمنع موسى ذلك من أن يعرض رسالته بين يدي فرعون، فرد إلى الرجل حقه».
لقرون عديدة كانت كتب التاريخ، وحكايا الشيوخ، وحديث المجالس، متخمة بمدائح من لانت قلوبهم من المعتدين، واستيقظت ضمائرهم من المتسلطين، ولكن هذا سيصبح تاريخاً يحكى، لأن ملكاً عظيماً ليلة الخامس من نوفمبر 2017 جعل القانون والقضاء سلطة المواطن والوطن لاسترداد حقه، لا عرائض المديح والدموع.