منصور النقيدان
نشر في مجلة المجلة بتاريخ 27/2/2000
7/11/1420هـ
في الثمانينات الهجرية ألف الشيخ عبدالرحمن المعلمي كتاباً توصل فيه إلى جواز تأخير مقام إبراهيم أثناء التوسعة الأولى في العهد السعودي للمسجد الحرام، وكان المعلمي يرى أن في ذلك توسعةً للطائفين حيث إن وجود المقام قريباً من الكعبة قد يسبب لهم ازدحاماً وتعثراً،فألف الشيخ سليمان بن حمدان الحنبلي كتاباً سماه (نقض المباني في الرد على المعلمي اليماني)، وكان المعلمي من علماء اليمن، ومن كبار علماء الحديث في عصره، وأمين مكتبة الحرم المكي الشريف، وقد توصل ابن حمدان في كتابه إلى أن المعلمي كافر مرتد عن الإسلام، لأن المعلمي استدل بآية البقرة التي تخاطب نبي الله إبراهيم بأن يطهر بيت الله للطائفين والقائمين والركوع السجود، على جواز تغيير مكان المقام ،وبالتالي فهو يرى أن بيت الله يجب تطهيره من المقام الذي هو من شعائر الله، وبالتالي فهو كافر لأنه اعتبر المقام قذارة يجب تطهير المسجد منها،واعتبار المقام قذارة كره لما أنزل الله ولشريعة الله،وهذا ردة عن الإسلام.
استمرأ الشيخ سليمان الحمدان هذه الهواية فكررها ثانية مع الشيخ محمد الصواف بعدما ألف كتاباً ذكر فيه أن وصول رواد الفضاء إلى القمر غير مستحيل شرعاً وقدراً، وأنه ليس في القرآن آية تقطع بأن القمر داخل السماوات المبنية المحروسة بالملائكة، مما يمنع من إمكان بلوغه إذا تقدم العلم الإنساني، فألف الحمدان كتاباً سماه ( الأقوال المصدقة في الرد على أهل الإلحاد والزندقة)،ذكر فيه أن الصواف كافر مرتد عن الإسلام، وأن من قال بأن الصعود على القمر غير مستحيل شرعاً فيجب استتابته وإلا ضربت عنقه.
المدهش أنني في وقت مبكر أثناء فترة الطلب على المشايخ في المساجد، كنت قد جمعت أخطاء كثيرة في كتب ابن حمدان نفسه، وعلى الخصوص كتابه (الدر النضيد). صدقوني.لقد كانت أخطاء في العقيدة أيضاً وهي ترشحه لكي يدخل نادي المكفَّرين- بفتح الفاء-.
مدينتي التي نشأت فيها “بريدة” تضم بين جنباتها علماء،منهم عالم في الحديث شاب وهو الشيخ سليمان العلوان وكان قد تعرض لهجمة شرسة من بعض أقرانه قبل ثلاثة عشر عاماً، وصل بهم الحال إلى تكفيره، لأنه في درس من دروسه في تعليقه على حديث رواه ابن حبان أن الأنبياء يحتاجون إلى التنبيه على فضل لاإله إلا الله، نقلها أحد طلبته على أنه قال :إن من الأنبياء من لم يحقق التوحيد،وكانت الوطأة شديدة جداً انقسم فيها المشايخ طرفين حتى احتاج الأمر إلى تزكيات من علماء كبار مثل الراحلين ابن باز وابن عثيمين ،وشهادات وتبرئات، ولم تهدأ الجلبة إلا بعد فترة استنفد فيها الطرفان كل أسلحتهم.
وكان الشيخ ابن عثيمين نفسه قد تعرض أيضاً أوائل الثمانينات الميلادية لهجمة مشابهة بعد أن أطلق أمام طلابه في الجامعة كلاماً حول معية الله لعباده، قام بعضهم بكتابة ردود مطولة حول هذه القضية بعينها،وكان الشيخ علي الحواس أحد من ردوا عليه وأكثرهم شدة قاربت التصريح بكفر ابن عثيمين!
كان في بريدة عالم جليل هو الراحل شيخي صالح بن إبراهيم البليهي، وكان قد أفتى أن إخراج الشعير في زكاة الفطر لايقوم به الواجب، لأن الشعير اليوم يعتبر طعاماً للبهائم، وليس كما كان عليه الحال في حياة الرسول والعهد الأول. بسبب هذا الرأي تعرض البليهي لهجوم كاسح بلغ إلى التشكيك بعقيدته، والطعن في دينه، حيث اعتبر البعض قوله في تلك المسألة افتياتاً على الرسول”ص” الذي هو أعلم بما يصلح أمته، ولولا ذلك لما شرع إخراج الزكاة من الشعير.
أنا في هذه المقدمة الطويلة، تعمدت ذكر أمثلة عاصرتها، أو كنت شاهداً على بعضها، واقتصرت على ضرب أمثلة لعلماء دين لم يسلموا من تكفيرهم أو الطعن بعقائدهم من أشخاص ينتمون إلى نفس المذهب وأحياناً نفس المدرسة والتوجه.
في العام 1994 قامت الحكومة السعودية بإيقاف مجموعة من الإسلاميين المعارضين الذي أثاروا شغباً في بريدة، وقاموا باقتحام مبنى إمارة المنطقة، واعتصموا بالمساجد، والجوامع. وأثناء إيقافهم في سجن الحاير الشهير، حدث انقسام وانشقاق بين الصف الأول والثاني منهم، بسبب الموقف الشرعي الذي يجب اتخاذه من الحكومة السعودية، وتكفير العاملين في جهاز المباحث من أعلى الرتب العسكرية فيه إلى أقلهم رتبة.
كان هذا الانقسام هو الشرارة الأولى والنواة لتخلق تيار تكفيري غالٍ، ظهر على السطح لاحقاً ومارس أنشطته علناً ببيانات وفتاوى التكفير. يقود هذا التيار اليوم بعد رحيل حمود العقلاء، اسمان لامعان هما ناصر بن حمد الفهد، وعلي بن خضير الخضير.
تظهر الحاجة الملحة إلى فهم واع للشريعة والنصوص الدينية ومقاصدها مع التحولات الكبرى ورياح التغيير التي تعصف بالأمم والثقافات، ومع التماس الحضاري، تتكشف سوءات ويتهاوى ركام من المقولات التي يتعامل معها بقدسية مطلقة، وتظهر على السطح أزمات نابعة من ممارسات تجد لها غطاءً من الشرعية في النصوص والتراث الفقهي والديني.
أفكار عدد من الجماعات الدينية لدينا لاتختلف في تشددها عن طوائف مسيحية وجدت في التراث الديني المسيحي ولازالت إلى اليوم لها أتباعها ومؤسساتها كالمورمن، والريفورمر، وشهود يهوه، والكويكرز، والآمش، ولكن كثيراً من مفاهيم الحضارة الغربية التي هبت رياحها منذ قرون، وأيقظت الوعي الأممي لعدد من القيم الإنسانية العليا، كانت كفيلة بتقليم أظفار هذه الجماعات الدينية المتطرفة، وأخضعت بفضل النقد المشرع الأبواب بمباضعه وأدواته عدداً من أفكارها الدينية الكبرى لعمليات جراحية، وحركات تصحيحية.
حرية التفكير والنقد، وإخضاع أكثر الأفكار قدسية للمراجعة كانت وراء مراجعة المسيحية نفسها لكثير من أفكارها الدينية. وهذا مانحتاج إليه نحن المسلمين اليوم .
يتميز الإسلام بأنه لايوجد فيه هيئة دينية عليا تقرر ماهي -بالتحديد- العقيدة الصحيحة المستقيمة نظراً لوجود آيات محكمات وأخر متشابهات وعدم قياس ثابت متفق عليه إجماعاً لتحديد الفاصل القاطع بين استقامة العقيدة والمروق عنها. إضافة إلى عوامل الاجتهاد والتأويل والإجماع الظرفي المتغير بذاته مع الزمن، والعرف والظروف البيئية ونوعية العقلية السائدة في تحديد مواقع الأنماط الفكرية. إن من أهم المسائل التي يستوجب الحال أخذها بعين الاعتبار قضايا ضوابط التكفير وموانعه، ونواقض الإسلام ماهو موضع اتفاق وماهو موضع اختلاف، ومفهوم تطبيق الشريعة، والحكم بما أنزل الله، وإعادة النظر في مفهوم الولاء والبراء ولوازمه ومتعلقاته، وإزالة كل ماعلق بهذا المفهوم من زيادات وإضافات دعت إليها ظروف سياسية وخصومات مذهبية وظفت فيما بعد سيفاً مصلتاً على كل مخالف، وأصبح تلقين التلاميذ والطلبة بها كاللعب بالنار بحيث يمكن أن توظف لإشعال الفتن، والطعن في عقائد الناس والخروج على الحكومات.
من البديهي لدى كل مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرها منه, وأن أعظم ما اضطلع ببيانه هو حقيقة دين الإسلام وشرح فرائضه وما به يكون الإنسان مسلماً وما بسببه يرتد عن الدين ويكون كافراً, وقد تكفل القرآن وسيرة الرسول ببيان هذا الأصل بياناً جلياً.
وعلينا أن نؤمن إيماناً جازما بأن الله سبحانه وتعالى لم يكلنا -نحن المسلمين- في معرفة هذه الحقائق إلى اجتهاد فقيه ولا إلى فهم عالم وتشقيق آخر وخبطه كيفما اتفق, وحينما توضع قاعدة ويؤصل أصل أو يؤلف كتاب في كفر من أتى بعض المخالفات أوأطلق بعض العبارات ليلقن أجيال الأمة وتحشى به عقولهم وتربى عليه ناشئتهم ثم تثور الفتن وتسفك الدماء جراء ذلك، وحين التحقق عن مستند لتلك الأفكار في الشريعة المنزلة لا نجد إلا أثراً ضعيفاً أو حديثاً محتملاً أو أية مؤولة ورأياً مهجوراً لعالم خالفه من هو في مرتبته أو أعلم منه، فذلك أمر يقتضي من العارفين بالشريعة مراجعة عامة وإعادة نظر في كل ما له مساس بهذه القضايا ذات الحساسية الشديدة.
ونحن نعلم أنه لو جاء شيء من ذلك لتكفلت نصوص القرآن القطعية بشرحه وتفسيره. وقد اختلفت مذاهب المسلمين الفكرية ومدارسهم الفقهية في جل مسائل الإيمان: قوادحه ونواقضه, واجباته ومكملاته.
وما يثير الدهشة لدى كثير من الدارسين ويصيبهم بالشلل هو ما يحكى من إجماع الأمة واتفاق الأئمة على القول بمسألة ليست عند التحقيق والتنقيب سوى مذهب لعالم، أو توجه لدى فئة ليست إلا لوناً آخر من ألوان الطيف التي تتشكل منها الخارطة الإسلامية، ولم تكن حكاية الإجماع إلا تهويلاً وإرهاباً، ولكنها في المحصلة بيت من زجاج وكوخ من قش وسراب لا حقيقة له.
ومسألة القول بكفر من امتنع عن التزام شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة ليست إلا مثالاً لما ذكرناه.
وهذه المسألة بعينها من القضايا ذات الحضور والسيادة في جدول الجدل القائم بين الإسلاميين وخصومهم وبين الإسلاميين أنفسهم من الحركيين وأولي التوجهات الجهادية, بل لا أبالغ إن قلت إن هذه المسألة ضالعة في دفع كثير من الإسلاميين على تكفير مجتمعاتهم المسلمة, ومصادمة حكوماتهم لما رأوه من مظاهر النقص والخلل في التزام بعض أحكام الدين وشعائره.
تدل الأحاديث الصحيحة وكتب السير والأخبار على أن الذين قاتلهم الصحابة في حروب الردة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاث فئات:
1 – الذين ارتدوا عن الإسلام وقاتلوا الدولة المسلمة، وهؤلاء كان كفرهم محل إجماع من المسلمين.
2 – الذين امتنعوا عن أداء الزكاة لأبي بكر ولكنهم ظاهروا الفئة الأولى وقاتلوا معهم, وهؤلاء كان كفرهم لمظاهرتهم لمن ارتد.
3 – والفئة الثالثة هم الذين بقوا على إسلامهم ولم ينكروا شرعية الزكاة ولم يظاهروا من ارتد, غير أنهم امتنعوا عن أداء الزكاة, وكان من هذه الفئة من اختلط بالفئة الثانية. وهذه الفئة هي التي وقع الخلاف بين أبي بكر وعمر في وجوب قتالهم ثم قاتلهم أبو بكر, وقد رد إليهم عمر أموالهم وممتلكاتهم عند توليه الخلافة.
وإذا كان حال هؤلاء قد التبس على كبار فقهاء الصحابة, فإن من بعدهم ليسوا أعظم شأناً منهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنهم كانوا كفاراً بجامع قتال الصحابة لهم وعلقوا مناط التكفير بامتناعهم عن دفع الزكاة وقتالهم دون ذلك. وقد كانت سيرة الرسول في الممتنع عن دفعها أن تؤخذ منه ويعاقب بأخذ شطر ماله. لهذا ذهب بعض العلماء إلى تكفير كل طائفة ممتنعة عن التزام شيء من شعائر الإسلام حتى وإن كانت النصوص القطعية لم تدل على كفر من تركها, ولكنهم فرقوا بين الواحد والجماعة وجعلوا امتناع الواحد معصية تستحق التعزير ولا توجب الردة وامتناع الطائفة ممثلة بجماعة أو نظام كفراً وردة عن دين الإسلام, ومن كان له أدنى إلمام بعلوم الشريعة, يعلم قطعاً أنه ليس في الإسلام ما هو معصية في حق الفرد وكفر في حق الجماعة، والذين ذهبوا إلى هذا, قصروا الامتناع بالقتال دون غيره من مظاهر الردة والرفض، لأنهم لم يجدوا في كتب من قلدوهم سوى هذه الصورة. فجمدوا عليها ولكننا ندرك جيداً من معرفتنا بأنفسنا والمعهود من أحوال أبناء جنسنا من البشر أن امتناع الإنسان عن سلوك وفعل ما, يتمظهر في ممارسات كثيرة ليس الامتناع المسلح سوى صورة نهائية لها.
لم يستطيع أولئك القائلون باعتبار الامتناع المسلح كفراً وردة افتراض صور أخرى، لأنها ستؤدي حتماً إلى منزلقات خطيرة ولكنها في الحقيقة محصلة ونتيجة منطقية لمقدماتهم الفاسدة.
وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة بتسمية بعض المعاصي والكبائر كفراً وشركاً فحملها العلماء على أن المقصود “كفر دون كفر” أو كفر أصغر لا يوجب الردة بناء على الأصل المتفق عليه. والمعلوم من دين الإسلام بالضرورة: أن المسلم لا يخر جمن الملة إلا بما جاء في النصوص القطعية من القرآن والسنة أنه ناقض من نواقضٍ الإسلام.
وقد حمل جمع من العلماء قديما وحديثا الآية التي جاءت بكفر الحاكم بغير ما أنزل الله على الكفر الأصغر وأن كفر تارك الصلاة الذي جاءت به الأحاديث كفراً أصغر. ولكن القائلين بكفر الممتنع نزلوا تلك القاعدة على هاتين المسألتين, فذهب ابن تيمية إلى أن تارك الصلاة إن لم يكن كافرا بتركها فهو كافر بامتناعه عن أدائها إذا قتل ممتنعاً. وتخريجاً على هذا القول ذهب بعض المعاصرين إلى تكفير الممتنع عن الحكم بما أنزل الله إذا قاتل، وطَرْدُ هذا أن يكفروا قاطع الطريق الممتنع عن كف عدوانه حتى يقتل، وأن يكفروا الممتنع عن ترك شرب المسكر ومرتكب الفاحشة إذا امتنعا حتى يقتلا، وهذا هو اعتقاد الخوارج الذين يكفرون بالكبائر ونحن نعلم أن القائلين بكفر الممتنع لا يقولون به ولكنه لازم قولهم جرياً على أصولهم ولهذا ناقضوا أصولهم.
وهذا الخلط وجدته لدى كثير من المعروفين باعتدالهم, غافلين عن أن هذه الآراء التي ألقموها ولقنوها تلاميذهم هي بذرة التطرف ومكمن الداء.وما أكثر ما نردده من أقوال ورثناها غافلين عن خطرها ونتائجها الفتاكة .
هذا مثال واحد من القضايا التي تستحق من المهتمين والدارسين مراجعة وإعادة نظر .
لربما كان في حديثي ما يزعج البعض ولكنها الحقيقة. وإذا كنت أعتقد أن أمتنا المسلمة بعلمائها ومذاهبها الفكرية ومدارسها الفقهية لم تجمع يوما على مسألة. وأن ما يذكر من إجماع ويحكي من اتفاق ليس إلا رأيا يمثل تيارا أو توجها لمدرسة, ليبكي كل على ليلاه, فإنني أعتقد جازماً أن هذه الأمة المباركة لم تجمع يوماً على ضلالة، وأن هذه الأمة كالغيث لا يدري أوله خير أم أخره, فثقتي بقدرة العقل البشري على الاكتشاف والإبداع لا حدود لها متى مارُزِقَ العبد هدى وسدادً.