في صيف العام 2002، كنت محرراً في جريدة «الوطن» السعودية، ومع أن الجريدة قد استغنت عن بعض موظفيها وحافظت علي بدعم من زميلين أصبح واحد منهما رئيس تحرير الوطن لاحقاً، فإنني وفي لحظة تهور خضتُ ثورة فاشلة داخل الجريدة ضد رئيس مجلس إدارتها ورئيس تحريرها في الوقت نفسه، بدافع نبيل هو المطالبة بحقوق المدققين وصرف رواتبهم. انتهت هذه الزوبعة باستغناء الجريدة عني. فشكوت حالي إلى الأمير خالد الفيصل الذي كان أمير منطقة عسير يومها، ولكنني خسرت قضيتي. حزنت كثيراً، وتألمت وشعرت بالوحدة وأن الجميع قد تخلى عني، في ذروة هذه الأزمة أرسل إلىّ الأمير خالد الفيصل عبر واحد من المقربين منه، أن علي ألا أقلق، ولكن الأمر يحتاج إلى وقت. قبلها بشهرين وفي حومة هذه الأحزان كانت قناة «الجزيرة» وعبر ناشط سعودي -هو الآن هارب ومطلوب للقضاء- قد تواصلت معي لإجراء مقابلة توظيف في السفارة القطرية في الرياض. أجريت المقابلة ولكنني أخفقت في اجتياز الامتحان، ربما بسبب ضعف لغتي الإنجليزية وإجابات لم تكن موفقة.
قبل هذه القصة بما يقارب سبع سنوات، أي في نهاية العام 1995، كنت مع مجموعة من أصدقائي في حيرة من أمرنا، كنا ضمن عشرات ممن طلب توقيفهم بعد تفجير العليا 1995، ومع أننا كنا في طور تحول فكري وثقافي، فإن علاقاتنا كانت لازالت وطيدة بأشخاص كانوا يحملون فكراً متطرفاً، وكانت لهؤلاء صلة وثيقة بمن كانوا متورطين في تفجير العليا 1995. في هذه اللحظات من التيه والحيرة، انبثقت فكرة كان أبوها واحداً من الجيل القديم من الإخوان السعوديين، حيث أرسل إلينا عبر صديق مشترك بيننا، وكان هذا الصديق من قبل قد شغل منصباً كبيراً في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحين الاجتماع في مدينة عنيزة بالشيخ عبدالله أبو حمد الذي عُرف عبر عقود مديدة بالاحتساب على ما يراه منكرات وانحرافات شرعية تمارسها الدولة، أكد لنا علاقته الحميمة برئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جبر، ووعدنا بأن يتم منحنا جوازات قطرية بشرط أن نصل الدوحة بضمانة من ابن جبر، ولأن بعضاً منا لم يكن قد حصل من قبل على جواز سفر، ومن معه جواز لا يمكنه السفر لأنه في القائمة المحظورة، فقد أوكل الشيخ أبو حمد مهمة وصولنا إلى قطر إلينا «إما أن تدخلوا قطر تهريباً عبر الحدود أو تأتوا عبر اليمن، هناك من سيساعدكم في تجاوز نقاط التفتيش ولكنها مخاطرة كبيرة، خياركم الآخر هو اليمن، وهو أكثر أماناً». أما أنا فقد وقعت خلال أيام في يد الأمن السعودي، وأكلتُها سنتين وأربعة شهور متنقلاً بين ثلاثة سجون، كانت من أخصب سنوات عمري وأكثرها ثراء رغم أحزانها، ولأنني كنت في برزخ بين مرحلتين، وفي طور جديد لم يولد بعد، فقد قسوت على نفسي كثيراً. أما أصحابي فقد واصلوا رحلتهم، ولكونهم يرون في أنفسهم نخبة من الأذكياء وعلماءَ دين صغاراً، فقد تخاصموا مع مسؤول في الأوقاف القطرية، كانوا يعترضون على ما يرونه خطأ، واجهوا الإهمال في الدوحة لشهور طويلة، وتخلى عنهم الجميع حتى شيخهم أبو حمد صاحب الوعد. تسببت هذه القصة بعودتهم بعد ذلك إلى الوطن ومواجهة مصيرهم، حيث لم يزد توقيفهم على شهر واحد ثم أطلق سراحهم. اعتداد هؤلاء الشباب بأنفسهم وسذاجتهم في الآن نفسه، كان واقياً لهم من أن يتورطوا أكثر فأكثر في مخططات القطريين.
أكتفي في مقالتي هذه بسرد القصتين، وفي المقالة القادمة بعض الدروس المستفادة.