منصور إبراهيم النقيدان
نشر في مجلة المجلة 15/11/1420هـ
العدد 1044
ذات يوم عيد ماطر كنت أقف على رابية خفيضة من الأرض… مطرق الرأس صامتا أتفرس في تلك الحفرة التي أنزلوا فيها محمداً… كنا جميعا نستحم في رذاذ من الغيث حلو بديع وحين أهيل التراب عليه التفت إلى من حولي فلم أجد سوى خلجات تتوقد ونظرات تتردد وزفرات تُكتَّم. لقد تبدد الحلم وتجهم الواقع وأخفق الأمل ومات أبو مالك….
كان نسمة باردة وشذي فواحا وطهرا أيدب بيننا وكان داعية ومصلحا. فهل لهذا من خلف أو عنه من عوض؟
في حياة كل إنسان نواتئ بارزة ومنعطفات حادة ومفاصل لا تنبو عنها الذاكرة مهما تقدم العمر وتقادم الزمن. عهود الصبا وسنون الطفولة بصفائها الساحر وبراءتها الساذجة هي لحظة واحدة يسكن عندها الزمن … وبتشكل متسارع وعقل يتطور وقناعات متجددة بنفسية هي نهب التقلبات ومهبط الحوادث ونتاج المحيط يولد إنسان جديد.
يعيش أغلب الناس حياة تمر في شبه خواء ورتابة أشبه بالموت لا نكهة ولا مذاق. يولودون بصمت ويودعون الحياة بصمت ويدرج آخر في محيط يميل إلى الصرامة والجفاف في كل مناحي الحياة فينشأ شاباً بمطامح متوثبة تضطرب فيه نوازع الشباب طماحة ما تنفك تجيش قوية عنيفة إزاء أنظمة صارمة متخلفة.
هذا المركب المضطرب يترك في نفس صاحبه أثرا بالغا من الحيرة والاضطراب فإذا هو في حيرته قلق لا يهتدي في أمره إلى سبيل ولا يطمئن إلى وجهة.
فهو من ذلك في قلق لازم وهم مقيم, وذلك طور وجدنا كثيرا من أصحاب النفوس النبيلة الشفافة المرهفة قد مروا به. وهو من أشد ما يمر على الإنسان من أزمات نفسية ومن أخطر ما يمتحن به, والذين مروا بهذا الامتحان وعاشوا وعكته حتى انقضى بسلام كانوا أقل كثيرا ممن تهاووا تحت وطأته.
وهذه المرحلة من القلق استجابة تعكس جملة معقدة من المؤثرات, التي يترك كل منها طابعا معينا في النفس وتجعل الإنسان تركيبا مختلفا عن الآخرين.
وهذه الأزمة الروحية, التي يراها البسطاء (خللا نفسيا وحالة مرضية) تنبلج عن قلق مقدس يساور كل مصلح في كل هم يحاوله وعمل يزاوله وموضع يستقر فيه, مبعثه صفاء النفس وشفافية الروح وحدة الذكاء. فيدرك النقص ليروم الكمال ويسأم الركود فيبتغي التحول…! إنه إرهاص ظهور كل عظيم ومصلح في كل أمة.
كان رجل من أصحاب ابن تيمية يكثر سؤاله في قضايا الفلسفة والوجود, حتى قال له أبو العباس يوما: أي شكوك وأي شبهات؟ إنني أعلم أن قلبك يغلي غليان القدر أعلاه أسفله وأسفله أعلاه… الزمني تنتفع.
ما كان لأبي العباس أن يكون بتلك الدرجة من الشفافية والنفوذ إلى نفوس الآخرين بثاقب بصيرته اللماحة لو لم يكن ذلك الذي يخرج إلى الصحراء وحده ليناجي ربه:
تموت النفس بأوصابها *** ولم تدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة إذ شكت *** أذاها إلى غير أحبابها
وهو الذي حدث ابن القيم بما ذكره في مدارج السالكين: أنه كانت تشتد عليه تلك الأزمة حتى تلزمه الفراش عليلا, فلا يستشفي منها إلا بقراءة آيات السكينة والثبات. وحينما يجتاز الإنسان هذه المرحلة ويبرأ من عقابيلها يكون قد استقر على أرض صلبة من القناعات والمبادئ ليسلك بعد ذلك إلى الحرية والسمو والكمال سبيلا مقفرا من الرفاق، وحيثما عثر فيه على أقدام تكاد لا تبصر خضبها بدم قلبه ومشى في طريقه… أمة في رجل .
ويبقى السؤال: إذا كان كل شيء يخلي مكانه لأشياء أخرى, فلماذا تستمتع بالبقاء المتحجر بعض الأسماء حيث لا مبرر لبقائها وتعيش وهم التفرد والبقاء وتكون من الحساسية المفرطة إلى حد الكآبة المزمنة فيما إذا تسرب من وراء ذواتها نور يشير إلى صعود آخر يتخطى الحواجز ويهدد وجودها في القمة، فتعتمد تلك الأسماء سلوك المهاجمة والنقد المطلق والطعن في الذوات, بدلا من تقييم الأفكار والتحليل لاجتهادات الآخرين ومواقفهم الفكرية.
وقد يخدع الإنسان عن نفسه ليتوهم (دوراً يقوم به) مستغرقا في تأملات طويلة معقدة في الذات ويعبث به (وهم التفوق)،س لتفترسه آماله الخلب فيقنع بالدعاوى وتفتك به الأماني ليحارب طواحين الهواء ويهجو كل نجاح لا ينبعث من عباءته يثأر لكرامته الجريحة وحقه المستلب ليسل سيفاً في وجوه الآخرين ويطلق لسانا يلغ في أعراضهم.
*****
إن النجاح ليس شعارا تضعه على صدرك وتعلقه على رأسك .هو أن تعمل ويسرك أن يعمل الآخرون. وحينما تبدأ رحلة النجاح, عليك أن لا تلتفت لغير غايتك فأدنى التفات منك لغير مقصدك كاف أن يحطك في الحضيض. وابحث دائما في الآخرين مهما جانفوك واحتقروك عن جوانب من نفوسهم مشرقة ودوافع نبيلة وصفات تنضح بالإنسانية والفضيلة، هكذا كان يقول محمد النغيمشي فرحم الله محمداً, كان بيننا ثم مضى كخيال سار.