في العام 2003 دعينا إلى اجتماع مغلق بوزير الداخلية الأسبق المرحوم الأمير نايف بن عبدالعزيز، ضم قرابة مئة وعشرين كاتباً وإعلامياً، كانت البلاد للتو قد شهدت أول عمليات التفجير في شرق الرياض. قال لنا الأمير نايف إنه غير مسموح لأي منا الظهور على قناة «الجزيرة» لأنها قناة معادية للمملكة. كان سعوديون من قبل تحذير الأمير ومن بعده يظهرون ضيوفاً على هذه القناة. وكنت واحداً ممن اعتراهم الشعور بالحيرة، فمنذ تأسيس القناة حتى اجتماعنا بالوزير كانت قناة «الجزيرة» هي القناة الأثيرة مع القناة السعودية الأولى التي تفاجئك في مكاتب وصالات الانتظار في وزارة الداخلية. كان رحمه الله في الوقت نفسه يرى في قناة «الجزيرة» المثالَ الذي يجب أن يُحتذى من قبل القنوات السعودية الإخبارية، وكان أحياناً يوبخ مديري القنوات وملاكها بأن عليهم أن يجعلوا من قناة «الجزيرة» قدوة لهم، بدلاً من أن يزينوا قنواتهم بالحسناوات. كان هذا التفاوت ما بين ما يعلنه الأمير نايف وما بين ما نراه بأعيننا ليس مربكاً للإعلاميين فحسب، بل وكان يشعرنا بأن هذه التصريحات لم تكن صادرة عن موقف جاد وحاسم. ربما كانت مواسمَ، وربما كانت مرتبطة بلحظات التوتر. استمر ظهور سعوديين منهم من كان مقرباً من الأمير نفسه على قناة «الجزيرة»، من دون أن نسمع بأي إجراءات عقابية تجاههم. تكاد تختزل هذه السياسة حصيلة مواقفنا طوال عقدين.
كان القطريون يستثمرون هذه المواقف الرمادية عند السعوديين. الموقف المتوتر أحياناً ضد «الجزيرة» هو نفسه الموقف من سياسات أمير البلاد الأسبق حمد بن خليفة، وفي السنوات العشر الأخيرة استثمر القطريون في مجال بدا لهم مربحاً وقليل التكلفة، هو استهداف الشباب الأذكياء الذين هم على مشارف التخرج ممن يتلقون تعليمهم العالي في أوروبا وأميركا. كان القطريون يرون في ذلك استثماراً بعيد الأجل لهم، ملخصه هو أن المملكة ستتكفل بتكاليف ابتعاث أبنائها على حسابها، ولكن يمكننا أن نجني الثمار، لهذا كانوا يوجهون دعوات للطلاب السعوديين إلى الدوحة على درجة رجال الأعمال، ويدفعون لهم مقابل الورقة والمقالة مبلغاً باهظاً لا يمكن لأي مركز دراسات أن يدفعه لشاب في مقتبل العمر لا يزال متدرباً. القطريون (لا يشرِّهون)، لا يبذلون العطاء جزافاً، ولكنهم ينفعونك بأن تكون وسيطاً أو سمساراً في عقار وما شابه، أو يدفعون لك مقابل تسجيل حلقة وعظية على تلفزيون قطر خمسة عشر ألف دولار، أو يدفعون لك شهرياً مثلها مقابل أربع مقالات في صحفهم البائسة، وكانت السعودية قد رصدت منذ أكثر من سبع سنوات اتصالات مباشرة من القطري عبدالرحمن النعيمي وغيره إلى سعوديين يحرضهم فيها على التجمع والمسيرات أمام عدد من الوزارات والدوائر الحكومية. كان السعوديون يعرفون هذا وأكثر، ولكنا كنا أحياناً قساة على أبنائنا حين يمتلك واحد منهم الشجاعة ويكتب أو يصرِّح بكل أمانة عن مخططات القطريين ضد السعودية وجيرانها ومجلس التعاون الخليجي. إن ساعة من الحزن تلم بواحد من أبنائنا جراء كلمة حق في عدو متربص هي ثمن كبير.
شهدت الصحافة ووسائل الإعلام السعودية والإماراتية مئات المقالات، وعشرات الساعات عن حصيلة أكثر من عشرين عاماً من أشرار قطر، ولكننا حتى الآن عجزنا عن أن نواجه أنفسنا بالاعتراف بالأخطاء الماضية ولماذا حصلت، ولماذا تغافلنا عنها. بإمكان أمير قطر أن يستأجر من يحارب عنه، ومن يكتب عنه، ومن يخطط له، ومن ينفذ، ولكننا لسنا مثله، هو غريب بين شعبه، قادتنا ليسوا مثله. هو لا يثق بمواطنيه، ونحن نرى في أبنائنا المجد والمستقبل، وهذا لن يحصل ما لم نراجع حصيلة سياساتنا الإعلامية حتى هذه اللحظة.