منصور إبراهيم النقيدان
نشر في مجلة المجلة 30/4/2000
العدد1055
الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حديث عن واحدة من تلك القيم التي صنعت الحقبة التاريخية المجيدة لحضارتنا الإسلامية. إلا أن ما تراكم عبر التاريخ على جوهر القيم من جهة، واختلاف الناس بنزعاتهم المذهبية وانتماءاتهم وطريقة تفاعلهم مع القيم من جهة أخرى، كان حائلا دون التفاعل الإيجابي ومساهماً في ضمور كثير من القيم على صعيد المفهوم والممارسة.
لقد كانت إشادة القرآن الكريم بخيرية هذه الأمة إعلانا للبشرية بأن هذه الأمة هي ضمير الإنسانية الحي متى ما صلح استقام الكون وإذا ما سرى إليه الانحراف وتخلى عن وظيفته اختل النظام وسادت الجاهلية, وإذا كان صلاح الدين مرهوناً بصلاح الدنيا، فإن وظيفة الحسبة لا تخرج عن هذا المفهوم. فكان من وظيفة رجل الحسبة في عصور المسلمين الزاهرة مهام دينية محضة وأخرى مدنية, فالاحتساب على شرب الخمور ومظاهر العري والسلوكيات الخاطئة، لا ينفك عن كشف الغش التجاري وتزوير النقود وإزالة ما يعيق طريق الناس ومراعاة نظام البناء والرفق بالحيوان, مما يدلنا على مدى الرقي الحضاري في فهم الدين الذي لا يستثني حتى رجل الأمن من وظيفة الحسبة.
غير أن ما تلا ذلك من قصر مفهوم الحسبة على إنكار بعض مظاهر الزي واللباس لدى الرجل والمرأة وبعض السلوكيات المترتبة عن اجتماع واختلاط كل منهما بالآخر، هو نتاج التصور المشوه والمغلوط لحقيقة الإيمان وماهيته وقصره على الظاهر دون الباطن وحصره في نطاق ضيق أثمر علمنة في التدين, وواقعنا وعطاؤنا أكبر شاهد إدانة على ذلك.
ومن مظاهر هذا الفصل ذلك التفريق المصطنع الذي يوضع البعض في تكريسه بين الداعية والمرشد ورجل الحسبة، حتى آل الأمر إلى أن تكون وظيفة الحسبة مرتبطة في أذهان الكثيرين بالغلظة والرهبة والتسلط والتدخل في خصوصيات الآخرين.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم داعية ومرشدا ومربيا وكان في الوقت نفسه إمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ولكنه لم يضرب بيده الشريفة أحداً قط لا رجلا ولا امرأة. ويأتيه شاب في مقتبل العمر يستأذنه في أن يمارس فاحشة الزنا فيكون لقاؤه به وحديثه معه رحمة ورقة وشفقة بأبوة حانية وتسامح لا نظير له.
إن قصر مفهوم الحسبة على قمع مظاهر المخالفات والحيلولة دون إعلانها والمجاهرة بها بعيداً عن معالجة جذورها والمنابع التي أثمرتها ودراسة خلفيتها والعوامل النفسية والاجتماعية التي ولدت تلك المظاهر وأبرزت تلك الممارسات, قد أدى بمجتمعنا إلى داء الازدواجية والنفاق والفصل بين الظاهر والباطن والسر والعلن.
وحين لا يتاح للإنسان أن يعيش كما هو فسيعيش حياته منافقا.
كل ذلك أورث تركيبة اجتماعية غير متجانسة, وإن توحدت في الشكل, وانعداماً للثقة بالذات وتميزاً أجوف يصل إلى حد العنصرية، والكثيرَ من الظواهر السلبية والسيئة في جسم الأمة على مختلف المستويات.
لقد عالج الإسلام داء المعصية بنظرة متكاملة ابتداء من هم العبد بالمعصية إلى وقوعها وما يترتب عليها من جزاء, ولكن التعاطي المبتسر والانتقائية الجوفاء كانت من العوامل البارزة في تشوه الشخصية والنفسية المسلمة على مستوى الأفراد والمجتمعات.
وحين يكون التشدد والمنع وجلد الذات قيمة تطلب لذاتها ويعلى من شأنها فإن الشفاء يكون حينئذ عزيز المنال.
إن الدارس لمبحث الحسبة في كتب الفقه يلاحظ جلياً ما ناله من إهمال وما اعتراه من جمود على قوالب ثابتة من دون تطوير في مفهومها، وعلى كثرة ما كتب فإنك لا تكاد تجد في تلك المباحث ضابطاً محدداً يفصل بين ما يحق لآحاد الناس ممارسته من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما يخص موظف الحسبة حتى بلغ الأمر ببعض الغيورين ممن لا يملكون سلطة قضائية أو تنفيذية أن يتولوا بأنفسهم تنفيذ الحدود والعقوبات، مما أفضى إلى كثير من الفتن والفوضى وتسبب في تشويه صورة المسلمين لدى بعض المجتمعات الأخرى.
أضف إلى ذلك ما ذهب إليه بعضهم من أنه يجوز لمن رأى أنه من أهل الاجتهاد أن يحمل الناس على مذهبه في مسائل الاجتهاد والخلاف.
وإذا كنا نجوز في المسائل التي تختص بقضايا فردية أن يأخذ كل فرد بأي قول أو اجتهاد شاء, فإن مثل هذا لا يمكن في مثل هذه المسائل التي لها مساس باجتماع الناس وتنظيم علاقاتهم وتقييد حرياتهم .
إن مفهوم الحسبة اليوم يعاني من أزمة مردها إلى أن ثمة واقعاً مغايراً ومتغيراً، صفته الحراك والتطور، يراد له أن يصلح ويمارس عليه مفاهيم عبر قوالب متجمدة, ولن يكون لمفهوم الحسبة دور إلا بإحساس المجتمع عامة بالحاجة إليه مثالاً وهدفاً والالتزام بما يفرضه ويقتضيه, وأما الجمود على تلك القوالب والمقولات التي صاغها المتقدمون فلا يمكن بحال أن يكون مرجعا لصياغة نظريات جديدة للحسبة اليوم.
نعم يمكن البناء على ما يصلح البناء عليه منها متى ما ناسب الواقع وقارب روح الشرع من دون أن ترفع إلى مستوى الوحي المنزل.
الحاجة اليوم ماسة إلى اجتهاد جماعي يقنن للمخالفات والمنكرات ويضع لوائح تحدد لرجل الحسبة مهامه وتؤطر مجال عمله. يكون نظاماً عاماً وقانوناً سائداً يضع في الاعتبار تلك الفسيفساء من المذاهب والتنوع الثقافي والعرقي والانتماء الإقليمي، الذي يشكل سدي المجتمع ولحمته، ومنه تتشكل ألوان طيفه، ولا يمكن أن يترك لفرد أو أفراد من أبناء مجتمع هو مزيج من تلك الألوان أن يمارس وظيفة الحسبة حسب ما يعتقده ونشأ عليه, وذلك حتماً سيؤدي إلى الصراع والتناقض والقمع اللامبرر في مامن شأنه أن يكون قانوناً سائداً للجميع, وليس ثمة أحد أولى من غيره في أن تراعي مفاهيمه وثقافته وأعرافه في مفهوم الإسلام, مع مراعات التخلي عن التمذهب في ما يتعلق بالتقنين والتشريع العام، وأن يؤخذ بالراجح من الاجتهادات والأقوال مما يكون أليق بروح العصر .