مسألة مكافحة الإرهاب في المجتمعات الإسلامية هي تقريباً قصة الصدق مع الذات، القمم التي عقدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس الأحد في العاصمة السعودية الرياض، عنوانها الرئيس التعاون حول مكافحة الإرهاب، عن طريق خنق أصواته وتجفيف منابعه، ومشكلة الصمت والممالأة والتحريض. وكان مسؤول في البيت الأبيض قد ذكر لوكالة الأنباء الفرنسية أن ترامب في اجتماعه مع زعماء خمس وخمسين دولة إسلامية «سيكون مباشراً للغاية في الحديث عن ضرورة مواجهة التطرف، وعن واقع أن كثيرين في العالم الإسلامي ليس فقط لم يفعلوا ما فيه الكفاية بل شجعوا هذا التطرف بعيداً عن الكلمات السطحية الجميلة». ولكن ما يحتاج إليه العرب والمسلمون هو أهم بكثير مما قد يلقيه الرئيس الأميركي على زعمائهم. الصدق مع أنفسهم في مكافحة الغلو، بالصدق مع مجتمعاتهم قبل كل شيء، وصدق المجتمعات نفسها التي تعاني حقاً من وباء التطرف في نبذ الغلو وإيجاد المبررات لقتل الأبرياء والنساء والأطفال والإفساد في الأرض. ويأتي الصدق في الاعتراف بنجاح الآخرين في قائمة الأولويات، الاعتراف بنجاح دولة أو مجتمع في تفوقه على نفسه أو في حمايته لبيضته، وناشئته من منابع التطرف أساس في فهم لمَ ينجح الآخرون المشابهون لنا تماماً ونخفق نحن! في القرن الخامس قبل الميلاد عاش كونفشيوس، الذي كان حكيماً ووزيراً ورجل دولة، وخلَّف من ورائه تراثاً وتعاليم أخلاقية يتمثلها الصينيون حتى هذا اليوم، الكونفوشيوسية تعاليم وليست ديانة كالطاوية والبوذية، بل هي تعاليم يمكنها أن تواكب الحاضر وتنسجم مع المستقبل. تدور حكمة كونفشيوس ومونفشيوس وغيرهما على الصدق، صدق الساسة والمعلمين والآباء والأمهات وصدق أبناء المجتمع الواحد مع أنفسهم. هذه السجية لم تكن قاصرة على حكماء الصين، بل كانت ركيزة في تعاليم الفلاسفة الأخلاقيين عبر التاريخ من كل الأمم والحضارات، وأخذت مكانها الأرفع في لب تعاليم المصلحين والأنبياء، وفي الإسلام والقيم العربية. أن تعرف نفسك أولاً، وأن تكون صادقاً يتوافق ظاهرك مع باطنك. لدينا أمثلة عديدة من التاريخ المعاصر بتصريحات وخطب تاريخية لزعماء دول وقوى عظمى اعترفوا بالإخفاق، والفشل، وبالمسؤولية عن كوارث اقتصادية أو وباء اجتماعي أو أزمة سياسية تسببوا بها. الاعتراف والاعتذار هما صفتان تكاد تنفرد بهما اليوم الثقافة الغربية، هذه السجية تكون غالباً ظاهرة تتجلى على ألسنة المثقفين والمفكرين والأدباء ورجال الدين والساسة الذين هم في النهاية أفراد يشكلون مجتمعاتهم.
إن المستوى الرفيع الذي نجده في القرآن في كشف أسباب الهزائم، والفشل، والضعف، من الرياء والغرور والإعجاب بالذات والاختلاف، وعدم الطاعة وتغليب رغبات النفس، هو مثال لما كان يجب أن يتحلى به العرب في تلك اللحظة حين انبجس فجر العرب وأشرقت حضارتهم. احتل الصدق مع الذات مكاناً جوهرياً في كل الوصايا والتعاليم الصوفية والأخلاقية، ومع أن تاريخ الشعوب الإسلامية وتاريخ الساسة عبر أكثر من ألف وأربعمائة سنة ليس إلا انعكاساً لطبيعتهم بشراً يواجهون تحديات أمام كينونتهم ومطامحهم وأهدافهم ومصالحهم، إلا أن عدم الاعتراف بأسباب الفشل والإخفاق، بل الاعتراف بالفشل نفسه لا يزال إحدى الآفات التي نعاني منها عرباً ومسلمين. من العسير جداً ألا نظهر إلا منتصرين متفوقين منزهين عن الأخطاء، ونشعر بالألم أكثر أن نشهد بتفوق غيرنا علينا، ونجد راحة أكثر إذا اضطررنا إلى أن نشهد للبعيد أكثر منا حين ندين للقريب والشقيق والجار بالفضل والأسبقية. لهذا نرنو بعيداً بأعيننا لتمثُّل نماذج تفصلنا عنها محيطات وبحار، ولكننا لا نلتفت إلى جار لنا يمكنه أن يمد العون إلينا!