سيكون شيئاً بالغ التأثير إنْ وضعت زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس الثاني إلى مصر وعناقه لشيخ الأزهر والكلمة التاريخية التي ألقاها شيخ الأزهر بين يدي البابا، بصمتها العميقة في تعاطي هذه المؤسسة العريقة مع قضايا الخلاف والاختلاف داخل الإسلام قبل أن تفيض إلى المخالفين من أبناء الديانات والنحل.
إن قرار شيخ الأزهر بإقالة القائم بأعمال رئيس جامعة الأزهر أحمد حسني طه، بعد أن أفتى بكفر الباحث المصري إسلام البحيري، هو خطوة في المسار الصحيح، فحسب معرفتي قلما أصدر مرجع ديني في العالم الإسلامي قراراً بفصل عالم ديني تابع لإشرافه إثر قوله بكفر إنسان ما، فكيف إذا كان هذا القرار صادراً من شيخ الأزهر الذي يكاد اليوم يكون هو المؤسسة الوحيدة التي تسعى إلى إحداث تغيير كبير في داخلها أكثر من أي وقت مضى. إن التاريخ المعاصر يكاد يكون خلواً من أي مراجعة ومحاسبة لعالم دين أفتى بكفر أو قتل وإهدار دم إنسان أو جماعة تقوم بها مرجعيته من داخلها.
ولكن ما هو أكثر فائدة للأزهريين أنفسهم، ولمن يرنو إلى تمثل نهجهم واقتفاء طريقتهم، ومن يجدون في الأزهر صرحاً مرشحاً للريادة والإمامة الدينية تضم تحت جناحيها طوائف المسلمين قاطبة من دون استثناء، هو أن تناقش العقائد التي يدرسها الأزهريون، وعلى الأخص ما يوجب كون الإنسان منبوذاً من المجتمع المسلم ومستحقاً للعقاب جراء مسألة أو فكرة خارجة عن الإجماع أو رأي الجمهور.
ثمة أمران يجب عدم إهمالهما عند التعاطي مع قضايا التكفير، أولهما الحكم بإخراج إنسان من الإسلام، ثم الأحكام المترتبة على ذلك.
اعتذار رئيس جامعة الأزهر بأنه ليس من حقه أن يقول بكفر إنسان مسلم معللاً ذلك بأن هذا من حق القضاء ليس كافياً، بل يبدو هروباً من مناقشة دوافعه لتكفير باحث مسلم، إن السبيل الأمثل هو أن يوضح لماذا هو في الأساس قال بكفر باحث يشكك بأحاديث ومرويات في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما. أي لو كان رئيس جامعة الأزهر السابق قاضياً فهل كان سيحكم بكفر البحيري؟
الاعتذار عن استباحة الدماء وإهدار الأرواح لا يزال حتى اليوم واحدة من السجايا المعدومة في آداب الفقهاء وصفات المفتين. تطفح كتب الفقهاء بسرد الأمثلة عن علماء كبار وفقهاء أئمة تراجعوا عن اجتهاداتهم في مسائل فقهية فرعية أو لا تشكل خلافاً في الأساس لأسباب عديدة اتضحت لهم، ولكن سيرهم وكتب الطبقات التي خصصت لرواية أخبارهم، تكاد تكون معدمة من شواهد لتراجعاتهم واعتذارهم عن أحكام أصدروها بكفر مخالفين لهم.
منذ فترة مبكرة في تاريخ الإسلام، ومن دون استثناء، تعاطى فقهاء السنة على أن تكفير المخالف الملِّي (أي الإسلامي) اعتماداً على استدلال وفهم واستنباط هو ليس إلا اجتهاداً، يصيب الفقه فيه أو يخطئ، فإذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد، والخطأ مغفور. إذاً لمَ الاعتذار بعد ظهور الخطأ؟ ولهذا السبب تخلو مدونات الفقهاء وسيرهم الذاتية، وأكثر من مئة عام مضت منذ اليوم من اعتذار وطلب للسماح من أشخاص أهدرت دماؤهم ومنهم من قتلوا بتحريض من فقهاء ومنهم من فُرِّق بينهم وبين أزواجهم لهذا السبب.
فهل ما شهدناه في الأيام الأخيرة مؤذن بروح فقهية جديدة تواجه أخطاءها وتتجاوز الكلمات المنمقة والعبارات الخلابة؟ الأهم من كل ذلك تجاوز حالات فردية إلى فتح جديد في الموقف من قضايا أساسية أو أفكار ومدارس جُرِّمتْ وكفرتْ ومورس عليها التمييز والصغار منذ قرون.