ما نشرته صحف عربية الأيام الماضية عن تقرير لـ«سي آي إيه» حول «الإخوان المسلمين» عام 1986، لا جديد فيه. فلا خديعة مضمرة لا تعلم عنها الحكومات وأجهزة المخابرات العربية التي تعاملت مع الجماعة، ولا مفاجآت ولا تخبيب انساقت وراءه الجماعة برموزها وقيادييها وأعضائها الفاعلين، بفعل قوة عظمى أو اختراق من جهات شريرة، يمكن اعتباره مفاجئاً وصادماً ومثيراً للأسى وتجرع الغُصص.
تتساوى في هذه الحقيقة الأنظمة والحكومات والمؤسسات الرسمية التي تشاركت مع «الإخوان المسلمين» أهدافاً تكتيكية آنية، أو تورطت معهم في علاقة تعاون وتحالف استراتيجي، طويل الأمد، أو وظفتهم مقابل وعود بتمكينهم أو إشراكهم أو تسهيل تنقلاتهم، أو رفع الحظر عنهم، أو منحهم الوعود بالتغاضي عن لبوس جديد يظهرون به تحت مسميات أخرى. المؤكد أن ثمرة عشرات السنين من العداء والغيرة والتنافس والتحالف والعتب وحالات النشوز تؤكد حقيقة واحدة: أن وجود التنظيم وبقاءه ولو في حالة الخمول أصبح إدماناً لأنظمة عربية لا يمكنها أن تواجه حقيقة أن تلبية مطالب مواطنيها واحتياجاتهم الحقيقية هي مهمتها ورسالتها، وليس مطاردة جماعة أصبحت ذات مناعة جراء تقلبات أمزجة الساسة ونزواتهم.
الطريف أن التقرير أو التقييم الذي يعود إلى عام 1986 يؤكد أن الجماعة لها تاريخ حافل بالغدر والخيانة، هذا صحيح. ولكنها ليست سجية خاصة بهم، بل هي قاسم مشترك بين لاعبي السياسة عبر التاريخ، فالتبتل والتنسك السياسي والطهرانية السياسية ليست إلا يوتوبيا، أحياناً يكون ضحيتها سلفيون حدثاء عهد بخلابة السياسة ومكرها، وليس جماعة ولدت تلبية لأهداف سياسية دولية، وانغمست من يومها الأول في السياسة، وأنشأت تنظيماً مسلحاً سرياً وكانت ضالعة في اغتيال ملك اليمن، ووزير مصري كبير، واستمرت في هذه السنة على مر السنين.
السذاجة السياسية كانت واحدا من أسباب عديدة انتهت بثورة القراء على الأمويين، وكذلك بثورة الهاشميين على العباسيين إلى الفشل، ثم الاحتواء، وهي ما أخذه في الاعتبار كثير من الثائرين ممن جاء بعدهم الذين وصلت مِدد كمونهم أحياناً عشرات السنين، وهم يواصلون الليل بالنهار، وينشطون إذا فتر أعداؤهم، ويعملون والآخرون رقود، ويسرون إذا لاذ أعداؤهم بدفء الفراش. إلا أن الأهم في هذه القصة الغريبة «الأخوان والأنظمة» هي أنه لا يمكننا البتة أن نتصور القضاء أو إخماد فاعلية هذا التنظيم من دون أن يطبق العالمُ على أمر واحد: أن سحق هذا التنظيم في مهده، في بلده الأم، في مصر هو الكفيل بتأمين البشرية من وبائه، وما عدا ذلك فإن مناقشة حاضر ومآل الجماعة هو مجرد تسلية ومزحة باردة.
يبقى أن الأخطر من كل هذه التقارير أن «الإخوان المسلمين» كانوا وما زالوا يسبحون في سحابة من التنويعات الحركية والسلفية التقليدية، والتيارات المنشقة عنهم أو الهجينة التي تمنحهم حركة واسعة وقدرة على التمظهر في تجليات عديدة، من الفقهاء التقليديين، والدعاة، والقصّاص، والتربويين، ورجال الأعمال والإعلاميين، إلى الكوادر الشابة من جامعي التبرعات، و«الجلاوزة» الذين يمكن الاستفادة من قواهم العضلية وهم خلو من أي تفكير نقدي أو مساءلة أو فهم لما يلقى إليهم من توجيهات وأوامر.
الآن يجد «الإخوان» أيضاً مجالاً واسعاً عبر توظيف الكراهية الدينية والطائفية لتحقيق أهدافهم، وهم دائماً مغرمون بالاحتكاك الخشن المريب بالأنظمة مع شهوة عارمة للتعرض لمستويات متعددة من الأذى المادي، تكون في الأغلب قاصرة على نوعية من الأعضاء الذين لديهم نزوع مرَضي وممتع للتعرض للإذلال والأذى الجسدي. لنتذكر دائماً أن هذا النمط من «المؤمنين» يتكرر على مر الأزمنة، وهم الأخطر مادياً، والأضعف عقلياً.