تستمر مراكز الدراسات الأميركية والأوروبية في محاولة تقديم توصياتها لمكافحة الإرهاب المتمثل في «داعش»، مع إهمال واضح لمخاطر الإرهاب المتنامي من جماعات أخرى لا تقل ضراوة عنها، التي تمثل الخزان لكل الجماعات والتنظيمات المسلحة، وعلى رأسها «الإخوان المسلمون»، كما أن مراكز الدراسات الآن معنية أكثر بمسألة تحول اليمين المتطرف في دول أوروبا والغرب إلى «ذراع إرهابية» تحارب الدولة «لتقصيرها في محاربة الإسلام» من وجهة نظر «اليمينيين». وهذه المسألة بالذات هي حالياً أكثر القضايا خطورة التي تواجهها أوروبا، لأنها معقدة وأبعادها ثقافية وحضارية ودينية وأمنية، ومعظم السياسات التي تتخذها حالياً الحكومات الغربية لمعالجة هذه الآفة المتنامية باءت بالفشل.
يمكن القول إنها معالجات مبتسرة، ليس لأن عليهم أن يقوموا بما هو أكثر من ذلك، بل لأن التاريخ في علاقة الغرب بالإسلام، وبمواطنيه المسلمين يسير في اتجاه مستقبل مخيف وشاحب ومظلم. ويبدو أن المجتمعات الأوروبية تعيش الآن لحظة مشابهة لما شهدته الإمبراطورية الرومانية مع مسارها الطويل نحو الانحدار. إن أحد أسباب انهيار روما هو أخلاط البشر متعددو الديانات والثقافات من أطراف الإمبراطورية الذين وفدوا إليها من الآفاق كمواطنين، وأسهموا كثيراً في تغيير ديموغرافيتها، وزعزعة قيمها وعقائدها الوثنية، وأسهمت المسيحية وانتشارها بين شعوب الإمبراطورية بجزء كبير من التحول نحو المصير المحتوم.
أعداد المسلمين في أوروبا تتنامى، ونسبة الشرائح الاجتماعية من نفس البيئة التي يمكن أن يتحول أبناؤها إلى اعتناق الأفكار المتطرفة في ازدياد، وهذا الخوف يزيد بدوره قلق المثقفين والسياسيين والوطنيين وحماة الهوية الذين لا يمكن البتة تجاهل مخاوفهم، وبدروها فإن تلك الأصوات التي تتعالى ضد المسلمين والاعتداءات والمضايقات والشحن والتحريض ضدهم هو بالتأكيد يزيد مخاوف المسلمين. على سبيل المثال الذي يزور فرنسا الآن سيلاحظ أن الشباب الذين يدينون بالإسلام، وينحدرون من أصول عربية/ مسلمة هم الآن أكثر عناداً في إعلان هويتهم وأكثر تحدياً في إظهار انتمائهم، بل أكثر إصراراً على إبراز أنهم متدينون.
حسناً، إذا كان هذا هو الحال في ما سبق وربما في حضارات وثقافات أخرى مشابهة عرفها التاريخ، لأن التاريخ يعيد نفسه، ولأن السلوك البشري متشابه حد التطابق، فهل يعني هذا أن تضاعف أعداد المسلمين وتناميهم والخصوبة المدهشة لمواليدهم هي عامل انهيار سلبي متوقع لأوروبا، وبناءً عليه سيكون المسلمون في أوروبا وفي غيرها مصدر قلق للاستقرار العالمي وللسلام، ويمكن اعتبارهم آفة الحضارة الحديثة؟ الجواب قطعاً هو «لا»، فأحياناً يكون هذا التحول الديموغرافي العميق في حضارة من الحضارات واحداً من فصول إعادة تجدد أمة من الأمم، وولادتها مرة أخرى، حتى وهي متجهة نحو التآكل والانكماش. الدماء الجديدة حتى لو رافقها تنامٍ في المحافظة الدينية، وحتى لو تسببت في إحداث شروخ اجتماعية وقلق في اللحمة الوطنية لفترة ما، فإنها أثبتت في حالات عديدة عبر التاريخ أنها ليست إلا خامة جديدة لانبعاث أمة جديدة. هل سيتسبب هذا في الحروب؟ نعم ربما، وباضطرابات داخلية؟ نعم إلى حد ما. ولكن هذا هو مسار التاريخ، الذي لا يمكنه أن يعود إلى الوراء. فعلى أوروبا ومفكريها وفلاسفتها أن يقوموا بما هو أبعد من التفاصيل اليومية، أن يمد سياسيو أوروبا أبصارهم إلى ما يتجاوز مواطئ أقدامهم، إلى المستقبل البعيد، إلى الثلاثين عاماً المقبلة التي سيشكل فيها المسلمون ربما 30% من سكانها أو أكثر. كيف تجد أوروبا المسيحية نفسها والمسلمون يتعاظم تأثيرهم داخل القارة بما لم يسبق له مثيل في التاريخ؟ أخيراً هل علينا نحن المسلمين، محافظين ومتدينين وعلمانيين و«ملحدين»، أن نشعر في أعماقنا بنشوة وشعور غريب بالانتصار والظفر؟ هذا نتركه للزمن.