منصور النقيدان
قبل أكثر من شهر أخبرني صديق له صلة بأئمة المسجد الحرام بصدور قرار يلزم خطباء المسجد الحرام والمسجد النبوي بضرورة إرسال الخطبة إلى الديوان الملكي قبل إلقائها بساعة، ولكن القرار قوبل باستياء وامتعاض من بعضهم. وبعد أن استمعت إلى خطبة الجمعة الماضية من الحرم المكي بدا لي أنه كان قراراً أقرب إلى الحكمة، وأن الخطيب ربما أراد أن يجعل خطبته رداً على ذلك القرار وإحراجاً لمن كان وراءه. كيف يجري اختيار أئمة وخطباء المسجد الحرام، ومسجد الرسول؟ ما هي الشروط والمواصفات؟ وكيف يجري تقييمهم؟ كيف استطاع الشيخ عبدالله بن محمد حميد رئيس شؤون الحرمين الأسبق، ثم رئيس مجلس القضاء الأعلى، إقناع الملك خالد بتنصيب ابنه صالح بن حميد إماماً وخطيباً مع بداية الثمانينات، وكيف جاء بعده بسنوات إمام وخطيب المسجد الحرام محمد السبيل ورئيس شؤون الحرمين بقرار تعيين ابنه عمر السبيل إماماً وخطيباً للمسجد الحرام؟ ثم جاء بعده أسامة خياط بعدما كان والده الراحل لعشرات السنين إماماً وخطيباً، ثم ختموا بصالح بن طالب الذي ألقى خطبته المثيرة للجدل يوم الجمعة الماضية.
لقد ابتلي مئات الألوف من المسلمين لسنوات طويلة حتى بداية التسعينات بعذاب احتمال الصلاة كل رمضان خلف أحد أئمة المسجد الحرام الذي لم يكن له من حسن الصوت وإجادة القراءة وضبط الحفظ ما يؤهله لأن يكون إماماً في مسجد من مساجد المدن الكبرى، فقد كان منفراً للمصلين، ومؤذياً للأذن، وخادشاً للذوق، كثير الأخطاء، وجاءت الطامة الكبرى حينما ابتلينا نهاية التسعينيات بإمام آخر بدا الأول معه وكأنه نعمة كفرنا بها، ومنة رددناها فجاءنا العقاب من الله جزاء وفاقاً، وبدلاً من أن يستمتع المصلون بالصلاة خلف إمام تعيد قراءته لك تاريخ الإسلام منذ فجره الأول وتطوي القرون القهقرى حتى كأنك تستمع إليه غضاً طرياً بين جبال مكة وحجرات الرسول، أصبح الأتقياء يغالبون نفسهم ويصطبرونها خشية أن يكونوا ممن كره ما أنزل الله.
وبدا الأمر وكأن عصر الأئمة العظام مثل علي جابر، وعبدالله خياط، والخليفي ولى إلى غير رجعة، وأننا في عهد جديد يطغى عليه التوريث وانتهاب الفرص والصراع لكي يكسب كل واحد منهم جولته بتعيين الأقرب من الأبناء والعشيرة والأدنى من العصبة، من دون التفات إلى أي صفات حقيقية تؤهلهم للإمامة، أو الصعود خطباء على أكبر منابر المسلمين وفي مسجدهم الأعظم. علينا أن نحمد الله كثيراً أن مؤذني المسجد الحرام مازالوا حتى اليوم بعيدين عن ذلك. فحينما تستمع إلى ”علي الملا” تسري فيك الطمأنينة بأن هذا الصوت الحجازي الطريب لايزال يضوع منه عبق مكة، وينفث في الأفق قصة الوحي، ويخط على الشفق ألم بلال وحزن محمد ووفاء خديجة.
لقد كان الملك عبدالعزيز يقوم باختيار أئمة للمسجد الحرام من مصر بتزكية من علماء، لهم ولاء وحسن ظن بالدعوة الوهابية، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يتمتعون بالشروط والصفات التي تؤهلهم لنيل هذه الوظيفة النادرة والشريفة، وبعدها أصبح الأئمة ومنهم نجديون مثل ابن مضيان وابن شعلان، يتنقلون بين مسجدي مكة والمدينة، فمن لا يناسب للإمامة في رمضان قد يصلح للخطابة، ومن لا يناسب ليالي رمضان قد يكون مناسباً لصلوات التهجد في العشر الأواخر منها، وبعد أن أصبحت الصلوات تنقل عبر التليفزيون مباشرة على الهواء، أصبح هناك ترتيبات أخرى فمن لا يكون مناسباً لليالي رمضان قد يصلح للصلوات الخمس والفروض. وبعضهم يكون مناسباً للصلوات السرية فقط.
هذه أشياء متفهمة لكن ما يستعصى على الفهم هو لماذا يظهر في ليالي رمضان بمكة أئمة رائعون ذوو أصوات أخاذة وأداء ساحر، ثم نفاجأ بنقلهم إلى المدينة، وبعدها يبدأون بالاختفاء تدريجياً حتى لا نسمع بهم ولا نراهم؟
عرفت شباباً كان كل طموحهم حلماً في أن يكونوا يوماً أئمة في المسجد الحرام، كثير منهم أفنوا سنوات من زهرة شبابهم في سعي لا يكل لأن يبلغوا الغاية في إجادة القرآن وحفظه والحصول على إجازات من المقرئين الكبار، ولكن كل تلك الأحلام تبخرت وذهبت أدراج الرياح، كانوا يعتقدون أن تمتعهم بعذوبة الصوت وازدحام مساجدهم في رمضان ونيلهم لأعلى الشهادات في التخصصات الشرعية، وتملقهم للعلماء الكبار، كاف في أن يلفت الأنظار إليهم وأن يدرجوا على الأقل في قائمة المرشحين، ولكنهم لم يصلوا لأنهم لم يعرفوا كيف هو الطريق الأخصر والأقرب لترشيحهم لنيل تلك الوظيفة. وكم هو مثير للدهشة أن تكون هذه الوظيفة ميدان صراع للاستئثار بها تركة للأبناء والعشيرة.