قبل ثلاثة أسابيع تلقيت اتصالاً من رقم سعودي غير محفوظ عندي ترددت في الرد عليه، ولكنني تلقيت رسالة من إنسان آخر أعرفه يؤكد لي أن هذا الرقم لصديق قديم أُفرج عنه بعد 13 عاماً من السجن، بعد تورطه في التستر والتعاون مع خلية خططت لعمل إجرامي إرهابي في وسط المملكة العربية السعودية. كنت قد زرت هذا الصديق الذي انجرف وظل في السنة الماضية في سجنه، وبعده كتبت مقالة في الاتحاد بعنوان «أطفالنا إرهابيون»، كانت مطالب صديقي تتلخص في رجاء بأن يقابل أمه التي انقطعت عن زيارته منذ أكثر من عشر سنوات، ولأنها كانت ترفض زيارة السجن، فقد قدم التماساً بأن يُسمح له كما في حالات نادرة أخرى أن يلتقيها في استراحة خاصة مع عائلته وأبنائه، ولم تمض شهور حتى لبيت رغبته. في حديثي الهاتفي معه بعد أن نال حريته تبادلنا كلمات المجاملة لدقيقتين لا أكثر، إلا أنه فاجأني بأن نقل الكلام إلى ما يبدو أنه الغرض من الاتصال، وهو أنه غير راضٍ عن التعويض الذي حصل عليه من الدولة، وكان يقل تقريباً عن مليوني ريال سعودي، فقد اكتشف أن بعضاً ممن عُوِّضوا ممن أوقفوا وتجاوزت إقامتهم في السجن الأحكام القضائية الصادرة في حقهم، قد حصلوا على أموال أكثر. قال لي: «أنا أرى أن التعويض العادل هو ثلاثة ملايين ريال، هذا لا يكفيني، صحيح أنني لست أحمل شهادة جامعية، ولكن هذا لا معنى له، لماذا علي أن أثبت أن دخلي في اليوم كان يوازي دخل من يحمل شهادة عليا!». ولكنني لذت بالصمت ولم أُحر جواباً. ولأنني فضولي شيئاً ما فقد سنحت لي الفرصة أن أفتح الموضوع مع مسؤول أمني كبير، فأجابني: «إن هناك حالات يحكم فيها القضاء بالتعويض ويلزم بها، وحالات أخرى يكون التعويض أكثر مما حكم به القضاء، ويأتي هذا دعماً من ولاة الأمر. أحياناً يأتي توجيه وزير الداخلية بأن التعويض غير عادل، ويقترح بأن يُضاف إلى ما صرف للمفرج عنهم ممن تجاوزت إقامتهم الأحكام الصادرة في حقهم، الضعفَ أو أقل أو أكثر حسب تقدير لجنة ترفع تقريرها».
وكانت إذاعة مونتكارلو الدولية الناطقة بالعربية قد قامت بجولة في سجن الحائر جنوب الرياض، حيث تمكنت مراسلتها إيمان الحمود من اختيار إحدى الغرف التي تقطنها ثلاث نزيلات، كلهن متورطات في قضايا دعم وتحريض وترويج للفكر الإرهابي، وبتزوير وثائق للتسلل إلى داخل المملكة من سوريا، ولكن سجينة واحدة من بين الصبايا كانت هي الأصغر سناً، كانت تدور شكوك المحققين حول نيتها تنفيذ عملية إرهابية داخل البلاد مع زوجها، وهي من بين الثلاث التي انهارت بالبكاء لأنها حسب قولها لا تعرف ما هو مصيرها، ولأنها لم تلتقِ زوجها الذي يقع في عنبر الذكور منذ ثلاثة أشهر.
إنه لمشهد موجع ومؤلم، أن ترى فتاة دون العشرين في مثل هذا الوضع، ولكن لنتذكر أنه دائماً خلف هذه المشاهد العابرة من الدموع التي تنزفها المآقي، والحرق التي تنفثها صدور الأسيرات، حقائق أكثر إيلاماً، فمن دون إدراك أن كثيراً ممن قاموا بذبح آبائهم وأمهاتهم وأخوالهم وجيرانهم هم في الأساس مراهقون بعضهم في الخامسة عشرة، وأن كثيراً من الأطفال جنِّدوا لتنفيذ عمليات إرهابية استهدفت المساجد والأبرياء، فإن أي معالجة لهذه القضايا الأمنية الخطرة التي يصعب التنبؤ بها ستكون فاشلة وناقصة. نحن أمام حقائق مؤلمة، ظللنا سنوات طوالاً نتجاهل أسباب استشرائها، ونأبى أن نواجهها، ولهذا فالتشافي منها مؤلم، ولكن عاقبته أمن وأمان.